فيصل عبد الحسن يخوض رحلة بحث معاصرة عن الحب والحرية في عصر الجواري ومؤامرات القصور

"الرحلة العجائبية" رواية عراقية تستعيد أجواء دمشق والكوفة في القرن الأول الهجري.
الاثنين 2021/11/08
فيصل عبدالحسن يستعمل عين الكاميرا ليعيد كتابة التاريخ

التاريخ ليس مجرد أحداث أو حكايات؛ إنه حياة كاملة كانت سابقة ومؤثرة في الحياة التي لحقتها، ولفهم الحاضر من الضروري تفكيك الماضي، وهذا ما حاوله الكثير من الروائيين باستنطاق التاريخ عبر شخصيات متنوعة لفهم الحاضر وكشف مآلاته المستقبلية، وهو ما نجده في تتبع الكاتب العراقي المقيم في المغرب فيصل عبدالحسن في روايته الجديدة “الرحلة العجائبية”.

بغداد - تحكي رواية الكاتب العراقي فيصل عبدالحسن الأخيرة بعنوان “الرحلة العجائبية” عن زمن يوصي فيه كل أب خائف على مصير أولاده من الجوع والحرمان والسجن، وحتى القتل، بأنه “إن رأى الناس في مدينته يعبدون العجل، فلا يتوان ولا يستنكف من تقديم البرسيم للعجل المعبود”.

ويقودنا عبدالحسن بلغته الشعرية وصوره البلاغية وطريقته الفريدة في سرد الأحداث عبر فصول الرواية الخمسين إلى عصر الجواري والعبيد ومؤامرات القصور في العهد الأموي، وغارات اللصوص وقطاع الطرق والخوارج، والصراع الدموي بين دولة الخلافة الإسلامية ودولة المُلك الأموية في دمشق.

مخطوطة قديمة

استقى الكاتب أحداث روايته من مخطوطة قديمة عثر عليها مصادفة لدى بائع أثاث قديم في البصرة

في روايته، الصادرة بالاشتراك بين “دار الصحيفة العربية” في بغداد و”دار العراب” بدمشق، يستعمل الكاتب عين الكاميرا التي تنتقل بين خانات ودروب البصرة وحلب ودمشق، مستنبطاً الحوادث من التاريخ القديم ليجعل روايته ساخرة ومعاصرة في الوقت ذاته، ناقداً ما يحدث اليوم في عالمنا العربي من فتن وصراعات عبثية، ومعبراً عن أسوأ ما يعانيه الإنسان العربي عند انعدام الحرية وتسلط القوة الغاشمة عليه لتغيير عقيدته وما يؤمن به من أفكار، ويفضح خلال تلك الرحلة كل وجوه النفاق التي يتحلى بها البعض من البشر لتجميل ما يعيشه غيرهم من ظروف غير إنسانية ليبقوا عبيداً.

استقى عبدالحسن أحداث روايته من مخطوطة قديمة عثر عليها مصادفة لدى بائع أثاث قديم في البصرة، والمخطوطة تعود إلى سنة 38 هجرية/ 657 ميلادية، أرخت فصولها أحداث البصرة في ذلك الزمن، وما عاشه وجيه من أهل البصرة يُدعى الهفهاف بن مهند الراسبي. كان والده المهند الراسبي من أكبر شيوخ وفرسان قبائل البصرة في منتصف القرن الهجري الأول.

والشخصية الروائية شخصية حقيقية ذُكر بطلها “الهفهاف بن مهند الراسبي” في مخطوطة من تأليف الفضل بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسدي الكوفي، مما يؤكد أن صاحب السيرة شخصية حقيقية عاشت في القرن الهجري الأول، وتركت ما عاشته من أحداث على طوامير “أوراق” متفرقة جمعها برجمان واحد استقى منه الكاتب أحداث ما جرى.

وكذلك ذُكر في مصادر تاريخية أخرى جاء فيها بعض ما ورد في المخطوطة، كـ”تاريخ الرسل والملوك” للطبري، و”الطبقات الكبرى” لابن سعد، و”أسد الغابة في معرفة الصحابة” لابن الأثير، و”المصاحف” للسجستاني، و”تاريخ القرآن” لعبدالصبور شاهين، و”سير أعلام النبلاء” للذهبي، و”الكامل في التاريخ” لابن الأثير، و”البداية والنهاية” لابن كثير، و”النشر في القراءات العشر” لابن الجزري، و”قبائل البصرة في القرن الأول الهجري” لعبدالحكيم غنتاب، و”فتوح الشام، الجزء الثاني”، وغير ذلك.

وتحكي المخطوطة التاريخية ما جرى للابن من وقائع في رحلة حياة عجائبية، لشاب مثقف من ذلك العصر تثقف بثقافة عصره، من فلسفة وتاريخ وأدب، ونبغ في قول الشعر والخطابة والترجمة عن اللاتينية والفارسية.

يصفُ مسعود تابع الهفهاف نساء دمشق أثناء توجههما في رحلة مملوءة بالأحداث والمغامرات والمخاطر صوب دمشق، مذكراً بأسواقها وحاراتها في أحد فصول الرواية، فيقول “حذارِ يا مولاي الهفهاف، من فتنة نساء دمشق، فهن يسحرنك برقة كلامهن، وبهاء ابتساماتهن، وأكثرهن بتمَّام شبابهن، فهن في علو من التهذيب، والأناقة في الملبس، وجمال المعشر، والرقة في الحديث، والتعامل اللبيب مع الغرباء، لا تجده إلا لدى أميرات تربّين في قصور ملوك، نساء مدللات لم يمسسهن حر ولا لغوب، فهن لا يفترن عن المرح والحركة في أسواق دمشق كالفراشات الملونة، وكأنهن في بستان من الزهور، فيسحرن كل من أطل نحوهن لحظة، وقد زين الله وجوههن بعيون واسعة، وشفاه صغيرة مضمومة مثل ورود لم تزل مغلقة بانتظار سقوط الندى، وأعناق طويلة، وأجساد غيداء، صورها خالقها فأحسن تصويرها”.

 وتدور الأحداث في مدن لا تزال ناشئة وأخرى كبيرة في ذلك الوقت كالبصرة والكوفة وحلب ودمشق. عاش الشاعر الشاب الهفهاف في موطنه الأصلي في أرض الأخماس -التسمية القديمة لمدينة البصرة- وارثاً لأرض زراعية واسعة سخرها لخدمة ما آمن به من فكر حرٍّ وروح طليقة، لا يحد من طموحه في تغيير حياة الناس حوله شيء، بذل جهوده لتغيير حياة الناس من العبودية إلى حياة التحرر والانعتاق من كل قيود الذل للحاكم الظالم. ومن أقواله في الرواية، معبراً عن فكره ومشاعره عما يدور حوله من أحوال الدنيا وأحوال السياسة في عصره، “القلمُ أشدُ مَضَاءً من السَّيْف والكلمةُ خالدةٌ بعد هلاكِ الأجسادِ” و”ما أكبر الحب وأصغر الكراهية بميزان الأخلاق” و”الحرُّ ينفي نفسه من مدينته، ليفوز ببدنه سليماً وحريته” و”كل من سلك طريقاً لا يؤدي إلى تعِلّة يرضاها الله ينتهي إلى التيه”، و”ما أكثر عدد قبور الأموات وقلة عبرة الأحياء، هذه القبور تقول لنا ما نعيشه لله باق، وما نعيشه لأنفسنا محض تراب” و”من فضائل أقدارك أنَّها توضح غاية وجودك”.

الشهيد الأخير

الكاتب يستعمل عين الكاميرا التي تنتقل بين خانات ودروب البصرة وحلب ودمشق مستنبطاً الحوادث من التاريخ القديم

لا تتوقف رواية “الرحلة العجائبية” عند الأزمان السابقة التي تجول فيها عبر شخصية الشاعر، بل تحكي ما نعيشه حالياً من أحداث وفتن في وطننا العربي من خلال سيرة ذلك البطل التاريخي الذي ظل يبحث عن العدل والكرامة والحياة الفاضلة لمجتمعه، ومفارقاتها مستقاة من أحداث حقيقية حكت عن الحب والشجاعة والغدر والنفاق الاجتماعي والتضحية من أجل المبادئ من بدايتها حتى نهايتها المأساوية.

سيعيش القارئ أحداث الرواية العجائبية، وما دار في العراق والشام في زمن الأمويين من حوادث خلال تلك الحقبة الضاجة بالمؤامرات والملاهي والفتن والمكابدات والأسفار، من خلال شخصية الهفهاف بن مهند الراسبي المعروف تاريخياً بالشهيد الأخير، الذي لم يجد بداً من المشاركة في معركة الطف التي خلدها التاريخ في ما بعد، انتصاراً لطالبي الحرية من الاستعباد، التي سعى لها شخصياً طوال حياته، وبكل ما أمكنته الحياة من فكر وجهد ومال، فسقط شهيداً في تلك المعركة التي حدثت على أرض كربلاء سنة 61 هجرية.

ويذكر أن رواية “الرحلة العجائبية” هي الرواية الثامنة للكاتب فيصل عبدالحسن بعد رواياته السابقة “سنام الصحراء” 1983 و”فردوس مغلق” 1984 و”الليل والنهار” 1985 الفائزة بالجائزة التقديرية في العراق و”أقصى الجنوب” 1989 الرواية الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة الرواية لوزارة الثقافة والإعلام العراقية سنة 1989 و”عراقيون أجناب” 1994 و”سنوات كازابلانكا” 2011 و”تحيا الحياة” 2014، والعديد من المجموعات القصصية: “العروس 1986” و”ربيع كاذب 1987” و”جنود 1988” و”أعمامي اللصوص 2002” و”بستان العاشقين 2016” و”يوميات: أوكسجين للموتى 2016”.

12