فيصل الأحمر: العرب يخشون الجانب الثوري الكامن في الخيال العلمي

الجانب الثقافي يعود الفضل فيه إلى السينما أكثر من الأدب.
الخميس 2022/10/13
السينما والتلفزيون فضحا كل أسرار الصنعة الحكائية

لماذا يتراجع الخيال العلمي في الأدب العربي؟ سؤال طرح مرارا فيما بقيت إجاباته قاصرة عن الإحاطة بالقضية بشكل واف وهو ما تطرقت إليه “العرب” في حوارها مع الأكاديمي الجزائري فيصل الأحمر حول هذه القضية وحول ملامح وتجليات رؤاه وما يحمله تكوينه المعرفي من أفكار كان لها أثر على أعماله الإبداعية والبحثية.

تحفل المسيرة الإبداعية والأكاديمية والنقدية للجزائري فيصل الأحمر بثراء متعدد من أبرز جوانبه الانشغال بأدب الخيال العلمي إبداعا ونقدا، قدم للمكتبة العربية ستة أعمال روائية وثلاثة أعمال شعرية، وأصدر مجموعة قصصية هامة في الخيال العلمي 2002 تعد أول كتاب في الخيال العلمي في الجزائر باللغة العربية، تلتها رواية “أمين العلواني” وهي رواية خيالية علمية تجريبية، وله العديد من المؤلفات البحثية والترجمات، ونشر العديد من الدراسات والبحوث والنصوص في جل المجلات الثقافية العربية المتخصصة، وتتميز جل أعماله الشعرية والروائية بعمق رؤاها وحساسياتها الفنية والجمالية وتميزها على المستوى الشكلي والتجريبي، الأمر الذي لفت إليها انتباه النقاد والدارسين، ما جعل القراء محليا وعربيا يقبلون على أعماله مرارا بالقراءة والدراسة.

أصدر الأحمر مؤخرا في إطار أدب الخيال العلمي روايته للناشئة “في البعد المنسي” التي تشكل إضافة نوعية مهمة لهذا الأدب وتدور فكرتها الأساسية حول تغلب الآلة على الإنسان لتصبح البشرية تابعة للآلات والبرامج، وذلك عندما يفقد المكان معناه وتاريخه ويتغلب النسيان على الإنسان فيفقده صلته بالمكان.. كيف سيواجه الإنسان ذلك؟ هنا تدور أحداث الرواية التي صدرت عن دار فكرة كوم.

كتابة الرواية

القارئ اليوم أصبح ذكيا على المستوى التقني للحكايات فكل الحبكات مكشوفة معروفة لا تخفي سرا على الإطلاق

بداية يقول الأحمر حول جمعه بين أجناس مختلفة من الإبداع والبحث “الغالب عندي هو أن الأشياء تحدث بتلقائية كبيرة. أنا سليل مدرسة في الكتابة تؤمن بأن الكاتب ليس حكواتيا يمتع جمهوره بالقصص، ولا شاعرا يطرب جمهورا متعطشا إلى قوافيه، بل هو مثقف عالي الثقافة واسع الاطلاع يخوض بيسر في موضوعات الحياة التي تطرح نفسها أو يطرحها السياق التاريخي. لهذا تجدني أستغرب حالة روائي ليست له آراء سياسية ولا يخوض في شأن اجتماعي ولا غيره (ولا أقول إنه مجبر، ولا أقول إن عمل الروائي بعيد عن هذا الأمر، فالأمران بديهيان)”.

ويضيف أنه “يجب ألاّ يصبح الروائي في وقتنا مجرد آلة للكتابة وللبراعة التقنية في فن الحكي، والكلام نفسه ينسحب على الشاعر والمسرحي وغيرهما، ثم تترك مهمة التفكير لأناس غامضين بلا ملامح في الكثير من الأحيان يسمون الخبراء أو الأخصائيين أو السياسيين أو الإعلاميين، ويعملون ضمن خزانات أفكار أو مخابر أو ما شبه. أنا ممن يؤمنون بأن الأفكار عليها أن تنشأ وتمارس وتتبادل في نوع من الهاجس الديمقراطي، تتبادل وتناقش وتسقط أو يعلو شأنها أمام الملأ، ولأجل ذلك لا بد من مفكر معروف الوجه والملامح والاسم ليتعهد كل ذلك ويتبنى المواقف وما شابه ذلك. وهذا ما دفعني إلى تكوين متعدد المشارب يلامس الفلسفة والفكر كثيرا. وأعتقدها حال معظم الكتاب في التاريخ، عدا كتاب القرن الحالي والقرن الفائت حيث سحب التخصص المفرط البساط من تحت قدمي الكتاب”.

ويوضح أنه كثيرا ما طرح عليه سؤال التعايش السلمي لهذه الأجناس الأدبية المتعددة تحت القبة البرلمانية الإبداعية الفكرية نفسها، وفي المطلق يعتقد بأنه لا يفكر كثيرا في المرحلة القبلية للنص.

يقول الكاتب “لست منشغلا بجنس ونوع النص الذي أكتبه، فالحال عندي هي في المطلق ورشات كثيرة للتفكير وللممارسات النصية والجمالية المفتوحة بالتوازي إلى حد ما، ثم تأتي النصوص حسب آلية غير واضحة وفي مواعيد غير واضحة وحسب قوانين مجهولة لا أسيرها إلا قليلا. يبقى أنني أحيانا أرغب في الإيقاع والاختفاء وسط الكلمات، فتكون نتيجة عملي نصا شعريا. وأحيانا أرتب الأخبار والأقوال وأجعل كل ذلك يتقاطع ويتلامس ويتنافر ويتجاذب، فتكون النتيجة رواية أو شيئا كالرواية. وهكذا مع الفلسفة وإكراهاتها في العرض والتحليل والربط والتأطير والتجريد والنمذجة. أما من الناحية السياسية فتحركني الطاقة التي لا يوقفها تيار: الولع. أنا مصاب بولع شديد في كل شيء أقوم به، والسياسة بالنسبة إلي جزء من الحياة فيه إكراهات كثيرة، لهذا فالاستمرار فيها يتطلب الكثير من القوة الدافعة كالولع”.

داخل كل كاتب شخصيات عديدة
داخل كل كاتب شخصيات عديدة

ويتابع الأحمر”داخل كل كاتب شخصيات عديدة تتعايش سلميا ساعة وبشيء من الصراع ساعات أخرى. الشيزوفرينيا حالة طبيعية لدى الكاتب كما كان يصر فرويد في تحليلاته للأدباء. ولا أعتقد بأنه يمكنني أن أحدد أين يتوقف الناقد داخلي لكي يتحرك المبدع. أما ما يمكن وصفه بشيء من الدقة فهو أن الناقد أو الدارس الجامعي يجيد قواعد لعبته النقدية محاولا احترام إجراءات معينة يفرضها المنهج الذي يختاره. كما يحاول التجرد من السيل الجارف للأحكام الذي يتحرك داخله بسبب ميوله الإبداعية. لهذا لا أشعر كثيرا بالانزلاق صوب الصراع. وكملاحظة أخرى أنا أعيش كمبدع أكثر بكثير من عيشي بصفتي أكاديميا”.

ويبين أن كتبه النقدية والفلسفية على مدار 22 سنة منذ صدور منشوره الأول عددها سبعة في مقابل خمسة عشر كتابا بين شعر ورواية وقصة وسيرة ذاتية. هذا إذا جاز ثم صلح الاحتكام إلى المعيار الإحصائي طبعا.

ويلفت الأحمر إلى رواية “أمين العلواني” وهي رواية خيالية علمية تجريبية، نوع صعب وتركيب فريد وتحديات كتابية ليست سهلة، مؤكدا “أحد مفاتيحي الكتابية هو التركيز الكبير (وربما المفرط) على التجديد الشكلي في كتبي الإبداعية. فلم يحدث لي أن كتبت روايتين بالأسلوب نفسه، ولا التركيب أو أساليب الإخراج نفسها، لي تركيز كبير على التفكير في طريقة سرد حكاية وطريقة تقديم مروياتي لقارئي، وأجد في ذلك متعة كبيرة، والأمر عندي هام إلى درجة أنني كثيرا ما أوقفت كتابة نصوص أكون مهجوسا بها لا لسبب إلا لشعوري بأنني أروي قصة بطريقة خطية عادية كلاسيكية، وهذا شيء أعجز عن فعله أولا ولا أشعر بضرورته على الإطلاق”.

الكتاب العرب يقدمون للناشئة كتبا تفوق طاقاتها في القراءة والاستيعاب ثم يتعجبون من إقلاعها عن القراءة

ويتابع “باعثي في ذلك هو إيماني بأننا نعيش في زمن أصبح فيه القارئ ذكيا على المستوى التقني للحكايات، فكل الحبكات مكشوفة معروفة لا تخفي سرا على الإطلاق، بسبب عمل السينما والتلفزيون على نشر كل أسرار الصنعة الحكائية على مستوى الجمهور العريض الذي هو قطعا أذكي من الجمهور الأدبي للأزمنة السابقة”.

ويضيف أن “رواية ‘أمين العلواني‘ هي سيرة روائية لكاتب سوف يعيش على امتداد القرن الحادي والعشرين. ولهذا القرن صفاته ومحدداته السياسية التي تصورتها طبعا، وهي رواية مكتوبة على شكل سيرة نقدية من السير المعروفة التي تقدم لنا كتابا راوية حياتهم وشارحة طرق كتابتهم، فسردها مركب لأنها ليست حكاية مبنية على شكل هرمي وأحداث متنامية تتعقد وتسير صوب حل ما، بل هو كتاب شبه نقدي يحيط بحياة كاتب وطريقة كتابه ووقائع حياته..إلخ. ثم يحدث أن هذا الكاتب المستقبلي يجد كتابا عنوانه “أمين العلواني” كتبه منذ نصف قرن كاتب مغمور اسمه فيصل الأحمر، فيثيره الأمر ويشرع في البحث عن هذا الكاتب المغمور ويؤلف كتابا حول الحياة الأدبية في الماضي”.

ويتابع “هذه السيرة كلها يكتبها ناقد مستقبلي متخيل اسمه ‘مالك الأديب‘ لا يظهر اسمه إلا على الغلاف مقلوبا ومشطوبا تحت اسم المؤلف وبقرب عنوان الرواية. في الخلاصة نحصل على رواية وسيرة وكتاب نقدي بيوغرافي لكاتب متخيل في المستقبل، ونحصل على ثلاثة مؤلفين لحكاية لا تشبه أي حكاية أخرى. والرواية مكتوبة بين عامي 1999 و2000 كما هو مذكور في عدة أماكن قبل صدور طبعتها الأولى (2007)، وهي في طبعتها الرابعة حاليا، وقد ألف حولها كتابان نقديان بمشاركات عربية مرموقة”.

الخيال العلمي

Thumbnail

حول آخر أعماله الخيالية العلمية “في البعد المنسي” وما وراء كتابتها للناشئة تحديدا، يقول الأحمر “سوف أفاتح القراء بسر: هي رواية عمرها خمس وعشرون سنة وهي من أوائل كتاباتي وقد أعدت كتابتها ثلاث مرات. في الأصل كانت رواية للكبار، ثم مر عليها زمن فتغيرت مقاربتي للحكاية. ثم أعدت كتابتها لجعلها متماشية مع الذوق والراهن المعرفي والسياسي لساعة إعادة الكتابة، ثم مر زمن دون نشرها فقررت تحويلها إلى رواية للناشئة فأعدت كتابتها لكي تكون مناسبة لجمهور أعتقد أننا نهمله كثيرا في الدائرة العربية”.

ويشدد على أن الجمهور يعد أساسيا في كل مكان من العالم عدا عالمنا العربي. نحن نقدم للناشئة كتبا تفوق طاقاتها في القراءة والاستيعاب ثم نتعجب من إقلاعها المكثف عن القراءة، ونتعجب أكثر حينما نجدها تغرق في قراءات آتية إليها على مراكب الترجمة، السبب، في رأيه، هو أننا قطعنا صلتنا بها. وهي كما يبيّن رواية مغامرات فضائية شيقة، فيها آثار للتصوف كتجربة في الحياة، ومحركها الأساسي إنساني وإيكولوجي ومضاد للصيغة العولمية للحياة.

"في البعد المنسي" رواية تسرد تغلب الآلة على الإنسان لتصبح البشرية تابعة للآلات والبرامج

أما ما يتعلق بكتاباته في نقد الخيال العلمي والتنظير له منذ ربع قرن، ورؤيته لتأثير جهوده التنظيرية على الكتاب العرب ودفعهم صوب الكتابة في هذا النوع، فيرى أن هنالك ميلا مكثفا صوب هذا النوع من الكتابة في وقتنا، وهو ميل يلمسه لدى شباب الكتاب بشكل كبير، وربما السبب هو السينما ومواقع التواصل الاجتماعي.

يقول الأحمر “لقد كتبت مرارا أن تحول الخيال العلمي إلى ثقافة وطريقة في العيش والتفكير ونظام تواصلي متكامل فيه نظام معقد من الأوصاف والاستعارات يعد أهم من وجود قصص شهيرة وكتب رائجة. فالجانب الثقافي الذي يعود الفضل فيه إلى السينما أكثر من الأدب لكي نكون صريحين هو جانب عميق لأنه يلمس الناس جميعا ويلامس كل قطاعات الحياة. أما الجهود النقدية التي تتحدث عنها فربما تخدم الكتاب وأهل الاختصاص والقراء المختصين أكثر. ويحدث ذلك حينما نشهد ميلاد كاتب جديد يغريه هذا النوع المثير جدا في الحقيقة”.

ويتابع الأحمر “كثيرا ما طرق آذاننا التفسير البسيط السريع لفتور التأليف في الخيال العلمي والذي يرجع الأمر إلى تخلف العرب عن الركب العلمي أولا والتكنولوجي الذي يحول الأدوات التي تنتجها الحضارة إلى أدوات أليفة فيجعلنا ذوي ‘عقلية علمية‘. وهو تصور بلا أساس من منطلق أن العالم الرأسمالي الذي نعيش فيه منذ قرنين هو عالم يجعل الجميع مشاريع مستهلكين؛ وبالتالي فهو مبني على دعوة الجميع إلى التزود بالثقافة العلمية / التكنولوجية لا إلى إقصاء فئة. إنه عالم يستعمل كل الأدوات المستجدة الممكنة لتوسيع الدائرة التي تبرر وجوده: إنتاج / تسليع / بيع/ تجديد إنتاج / تسليع.. إلخ”.

ويضيف “أعتقد بأننا نحن العرب نخشى الجانب الثوري الكامن في الخيال العلمي؛ ذلك الجانب المتلاعب بكل القواعد والذي يقلب كل الموازين من حولنا ومن تحتنا وداخل أدمغتنا. هذا الوضع الوجودي الذي يعيد الحياة إلى نوع من حالة reset هو تخييل وتفكير أيضا، وهذا غير مريح للعقلية العربية التي ربت آلافا من السنين ولعها بالماضي وباستعادة باراديغمات الحياة السابقة تحت راية: هكذا وجدنا آباءنا يفعلون. هنالك تربية سياسية واجتماعية لا بد من إعادة النظر فيها من أجل تأهيل ثقافتنا للخيال العلمي. وهي تربية يشارك انتشار الخيال العلمي في مشروعها بشكل فعال حسبما أراه”.

الكاتب مثقف عالي الثقافة واسع الاطلاع يخوض بيسر في موضوعات الحياة
الكاتب مثقف عالي الثقافة واسع الاطلاع يخوض بيسر في موضوعات الحياة

يؤكد الأحمر أن المشهد الروائي في الجزائر مشهد حيوي جدا. فيه ظواهر مبشرة بالخير على رأسها العدد المتزايد من الكاتبات الشابات؛ وهو دليل على تغير كبير في العقليات، ودليل على أننا نعيش منعطفا حضاريا هاما زحزح (ولا زال يفعل) فكرة بروتوكولات الصمت الثقيلة المسلطة على المرأة في المجتمعات الشرقية. وقد عرفنا أقلاما كثيرة تجاوزت الدائرة المحلية وعرفت مقروئية محترمة على مستوى الوطن العربي وربما كسرت حاجز اللغة فانتقلت إلى مقروئية فيما وراء اللغة والعربية وقرائها.

يبقى أننا نعاني في الجزائر عزلة معينة سببها التاريخ الفرنكفوني للنخب الجزائرية غداة الاستقلال، ولكنها عزلة ربما يكون الكتاب المعربون الكبار مساهمين فيها بشكل كبير لأنهم لم يقوموا كثيرا بدور “الدبلوماسية الثقافية الإبداعية” المنتظر دائما من الكبار لتقديم الأقل سنا وانتشارا من كتاب بلدانهم. وهو دور معروف في الثقافات السليمة. هنالك قطيعة عجيبة بين كبار المشهد والأحدث سنا نزولا إلى الشباب المبتدئين الذين يبدون دوما كأنهم من كوكب آخر.

وأخيرا يشير إلى أن الجزائر شهدت حراكا نقديا هاما منذ ثلاثين سنة تقريبا، وهي المرحلة التي تلت الحراك الديمقراطي الجزائري (1988). لقد تغير العالم ساعتها بسرعة واستفادت الجزائر أكثر من غيرها من البلدان من تلك التغيرات: سقوط المعسكر الشرقي، سقوط جدار برلين، حرب الخليج، انتشار الإنترنت، التخضير للاتحاد الاوروبي. هنالك تسارع كبير في عجلات الحياة منتظر منها دوما التسارع في تطور الكتابة ومنه ضرورة ظهور حراكات نقدية عديدة. فالنقد منوط دوما بالمستوى التعليمي أولا وبتطورات الحياة في دائرة أوسع. يبقى فقط أننا نعاني من الغياب المرضي لمجلات ثقافية كبرى وواسعة الانتشار مما يساير التطور الإبداعي والفورة الكتابية الكبيرة شرقا وغربا. وهو فراغ لم تنجح الجامعة بمنشوراتها المحكمة الجادة عالية المستوى في ردمه.

14