"فيرونا تهبط من التل" مزيج عاطفي بين الماضي والتأملات

القرية مكان سردي حميمي كتب عنه جل روائيي العالم وقصاصيه، كل واحد منهم صوره وفق تصوره ورؤيته، لكنه كمكان لم يخل من نمطية أحيانا وتصورات مستهلكة، وهو ما حاول تجاوزه الكاتب البلجيكي ديمتري فيرهولست بخلق عوالم عاطفية مفعمة بالحب دون الوقوع في تنميط الفضاء بل يستنطقه بشكل حميمي.
تشكل رواية “فيرونا تهبط من التل” للروائي والشاعر البلجيكي ديمتري فيرهولست قصة حب وعطاء امرأة لزوجها الراحل، قصة مُصممة عن الحب الذي يتجاوز الموت ويمتد حضوره إلى ما هو أبعد من ذلك، ومن جانب آخر تشكل تصويرا حميميا وعاطفيا للحياة الريفية الأوروبية حيث الطبيعة القاسية والأشخاص غريبو الأطوار، وذلك من خلال ذاكرة امرأة: شبابها، حبها، زواجها، حياتها الزوجية، وفاة الزوج، الوفاء له، الشيخوخة والفجيعة والموت. وعلى الرغم من أن هذه الذاكرة تحمل الكثير من الموضوعات الكئيبة، فإن معالجة الكاتب لها كانت مشوقة ومؤثرة وفوق كل شيء ساحرة.
تبدأ أحداث الرواية التي يصعب وصفها إلى حد ما على الرغم من فرضيتها البسيطة، والتي ترجمها محمد عثمان خليفة وصدرت عن دار العربي، بالشخصية الرئيسية مدام فيرونا وهي تهبط التل الكبير الذي عاشت فيه سنوات طويلة، خطوة وراء الخطوة تستعيد مدام فيرونا ذكرياتها مع زوجها مع التركيز على ترملها وكيف أمضت عشرين عامًا من دونه.
ذكريات امرأة
منذ عشرين عاما مضت قامت مدام فيرونا، وهي معلمة بيانو، مع زوجها مسيو بوتر، وهو ملحن شهير يميل إلى الكآبة، ببناء منزل لهما على قمة تل في غابة فوق قريتهم الصغيرة آوسفيني. هناك عاشا في عزلة؛ في عالم ليس فيه سواهما، محاطيْن برومانسية مشاعرهما، يمارسان موسيقاهما، ويقطعان الأخشاب للتدفئة خلال فصول الشتاء الباردة.
عندما عرف مسيو بوتر أنه يحتضر، وكآخر أعمال الحب لزوجته، قام بقطع ما يكفي من الأشجار ليضمن أن لديها ما يكفي من الحطب حتى تموت. وعقب وفاته توقع السكان المحليون أن الجمال الأسطوري الذي تتمتع به مدام فيرونا سيعود إلى القرية، لكن أصبح لديها ما يكفي من الخشب لإبقائها دافئة خلال السنوات التي ستستغرقها صناعة آلة التشيلو، الآلة التي أحبها زوجها. في هذه الأثناء كان برفقتها عدد من الكلاب الضآلة التي استألفتها.
بموت مسيو بوتر تتدمر مدام فيرونا وتبدأ حياتها تفقد معناها. السعادة التي تقاسمها الاثنان كانت في بعضهما البعض، وليس مع بعضهما البعض، فبدونه لم تعد تستمتع بجمال العزلة ولا الأجواء التي تخلقها الموسيقى، ولكنها استمرت في البقاء متمسكة بذكرى زوجها وذكرياتها معه، وذلك على الرغم من أن رجال القرية كانوا يرغبون في جمالها الرائع.
تأمل مدام فيرونا أن يستمر لها الخير في الحياة الآخرة، إنها تكافح على مدى عقدين تاليين، في انتظار وصول آلة التشيلو التي كلفتها تخليداً لذكراه. ويأتي هبوطها المنتظم أسفل التل إلى القرية للتعبير عن شيء آخر، شيء يمثل إدراك أنها في شيخوختها، أنه سيأتي اليوم الذي لن تتمكن فيه من العودة مرة أخرى.
باعتماد أسلوب الحكاية يتناول الروائي موقف مدام فيرونا ومحيطها الإنساني من عدد من وجهات النظر: أولاها محاولتها الخاصة لتحديد حالتها وتحديد كيف يُنظر إلى تحولات جمالها الباهر الذي طالما شغف به القرويون في القرية، إنهم جميعًا يأملون قدومها وربما اختيار رفيقة جديدة. لكنها لا تفعل ذلك أبدًا. وتستمر في حياتها كما لو كان زوجها لا يزال على قيد الحياة. بالطبع، إنها تفتقده. لكنه موجود معها في كل مكان.
العناية الاستثنائية التي يكرسها الكاتب للأسلوب، بصفته أستاذًا في هذه الحرفة، تظهر بعض العبقرية والحميمية الجذابة للغاية
ثانية وجهات النظر في الرواية تأتي من تأمل ذكريات الماضي بالمقارنة بين حياة المرأة الأصغر سنا والأكبر سنا. وذلك للوقوف على مراحل حياة فيرونا من فتاة إلى امرأة متزوجة ثم أرملة تعيش وحيدة.
ثالثا القرية نفسها التي تموت ببطء أيضا نتيجة بعدها عن العالم الحديث، بالإضافة إلى العثور على الكثير مما يثير المشاعر في المكان وفي الغابة التي تحيط بمنزلها.
في صباح أحد أيام فبراير الباردة، عندما احترق آخر جذع شجرة، شقت مدام فيرونا طريقها ببطء إلى أسفل التل شديد الانحدار متجهة نحو القرية، كانت هناك أربعة طرق عسيرة تربط التل ببقية العالم، ومن بين هذه الطرق الأربعة، اختارت النزول من أصعبها، درب الغابة، الذي كان انحداره شديدًا وصعوبة قطعه كبيرة، ومعها آلة التشيلو وذكرياتها، وهي تعلم أنها لن تملك القوة لتسلق التل مرة أخرى.
لقد أدركت أنها لم تعد قادرة على المشي ومن ثم العودة دون مساعدة إلى منزلها بأعلى التل من القرية. لذلك اتخذت قرارًا واضحًا بأن هذا هو المكان الذي يجب أن تنتهي فيه حياتها. برفقة كلابها الضالة، تغامر بالهبوط من التل لتجلس ساعاتها الأخيرة على مقعد بالقرب من بلدية القرية مع تساقط الثلوج وحلول الليل المتجمد.
عالم القرية
الرواية هي في الواقع مزيج من الذكريات والتأملات، أحيانًا تكون أفكار مدام فيرونا واضحة وعميقة، وأحيانًا صوت الراوي أوسع أفقا وأكثر فلسفة. هذه الجوانب تسير جنبا إلى جنب بشكل جيد، لنرى عالم القرية وما يجري داخله من مشاهدات ومفارقات مثل محل بائع الصحف القديم الذي يأتي إليه المزارعون لتدخين التبغ وتقضية الساعات بلا هدف، الطبيبة البيطرية لونيت التي تعالج البشر والحيوانات، والبخيل روبرت الذي يعيش على عطايا الآخرين ولا يشعر بأنه مستور إلا بقبعته، التي يرتديها في كل مكان باستثناء الجنازات، وفي المقصف الرطب للسينما القديمة يلعب القرويون كرة قدم الطاولة بين شرب الخمر والتدخين.
يصور فيرهولست القرية البالية بحساسية غير عادية للبساطة والأصالة. إن العناية الاستثنائية التي يكرسها للأسلوب، بصفته أستاذًا في هذه الحرفة، تظهر بعض العبقرية والحميمية الجذابة للغاية. هذه الجدية الكلاسيكية في الأسلوب بصيغها المبهجة تغلف مع ذلك بسخرية تمكن كل المشاعر المثارة من استيعابها في توتر غامض.
يستخدم فيرهولست اللغة والصور الشعرية بشكل رائع، مع الأخذ في الاعتبار على سبيل المثال الاستخدام الذي يمكن استخدام الشجرة فيه -كائن حي تم اختزاله إلى خشب يمكن تحويله إلى نعش، أو حتى التشيلو- وأن المساحة التي ستتركها الشجرة المقطوعة خلفها سوف يشغلها شيء أو شخص ما. “إنه كذلك بالنسبة إلى الأشجار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الناس”.
وجدت الرواية، المكتوبة بشكل رائع في هذا الصدد، طريقة للتعبير عن طبيعة الحياة والتغيير والتقدم الحتمي للزمن، ساعيًا إلى إيجاد معنى في كل ذلك، أو على الأقل شيء من الجمال.
ويذكر أن فيرهولست عاش طفولة صعبة وبيئة معادية للاستقرار مع أب مدمن على الكحول وعدواني للغاية، وأم ألقته في الشارع عندما كان في الثانية عشرة من عمره. ومن ثم كان يجب عليه البحث عن ملجأ في مكان آخر. يروي قصته لأخصائي اجتماعي في المدرسة -قال لاحقًا “هناك الكثير من الهراء حول مثل هذه الأشياء، لكنها كانت بالنسبة إلي بوابة لحياة مختلفة”- ليتم وضعه في دار رعاية. يقول “لأول مرة في حياتي أعيش فترة من السلام والهدوء النسبي”.
بدأ ظهوره السردي لأول مرة في عام 1999 مع مجموعة القصص القصيرة “الغرفة المجاورة”، لكن كان لديه بالفعل إنتاج مذهل باسمه، بما في ذلك الشعر والمسرحيات. “الغرفة المجاورة” تحتوي على قصص عن طفولته المضطربة. والدته التي لم يرها منذ سنوات قامت بمقاضاته لأنها تعرفت على نفسها في القصص. لم تكن سعيدة بالصورة المرسومة للشخصية التي تحمل اسمها. سيقول فيرهولست إنه خيال وسيُثبت أنه غير مذنب.
وبعد أن حقق إنجازاً كبيراً من خلال روايته “مصيبة الأشياء”، وهي رواية تمثل سيرته الذاتية ويسجل فيها بشكل خاص الوقت الذي عاشه مع والده وأعمامه المدمنين على الكحول، ثم روايته “فندق الغرباء” التي ترجمت إلى أكثر من 10 لغات وتحولت إلى فيلم صدر عام 2016، أخذ فيرهولست استراحة من واجباته الكتابية وقرر التركيز على “صناعة الأفلام”. كما قدم المسلسل التلفزيوني “صنع في أوروبا” عام 2017؛ وهو سلسلة رحلات مكونة من ثمانية أجزاء يبحث فيها عن الهوية الأوروبية. وعلى الرغم من أن فيرهولست يحب اكتشاف أماكن وبلدان أخرى إلا أنه يقول إن “السفر بلا جدوى، وإن السفر دائمًا هو الخطوة الأولى للعودة”.