فيتالي تشوركين حامل كلمة السر الروسية وخليفة لافروف المحتمل

بروكسل - المشهد العام يبدأ من البيان الروسي الأميركي الأخير الذي ينص على وقف إطلاق النار داخل الأراضي السورية اعتباراً من هذا اليوم السبت. جولات عديدة من المحادثات و الاتصالات سبقت هذا الإعلان، بعضها كان معلناً وأغلبها كان سريّاً. على خطّ مواز لتلك المفاوضات كان النظام الحاكم في سوريا يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في ظل كل التعقيد الذي يخيّم على سماء البلاد، فأعلن رئيس النظام عزمه على استرداد سيطرته على مجمل الأراضي التي خرجت عن سطوته في السنوات الأخيرة.
اللافت هنا أن الرد الروسي على تلك التصريحات كان قاسياً، ولم يحدث أبدا في التاريخ المعلن بين موسكو وحلفائها. فقد قال فيتالي تشوركين مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة موجهاً حديثه للأسد، إنّ عليه ألا يُلقي بتصريحات تتعارضُ مع سياسة بلاده روسيا التي تسعى لحل الأزمات التي تعصف بالمدن السورية، مختصراً الكلام بقوله “إن التصريحات الأخيرة للرئيس السوري لا تنسجم مع الجهود الدبلوماسية لروسيا”.
مسوِّق التحديات
على وقع التنسيق المتكامل بين الإدارة الروسية وحلفائها حول العالم، تمتد أذرع موسكو السياسية والاقتصادية و العسكرية في اتجاهات عدة. يديرها دبلوماسيون ورجال أعمال في مراكز صنع القرار المختلفة التي تمتد بين الشرق والغرب.
برز الدور الروسي عالمياً عقب انحساره مع انشغالاته الأمنية والاقتصادية الداخلية بمجرد سقوط الاتحاد السوفييتي. ثم ما لبث أن عاد لدائرة الفعل تحت عباءة إدارة فلاديمير بوتين لموسكو في ظل عدم اهتمام الإدارة الأميركية للرئيس أوباما بالمحافظة على مناطق نفوذها التقليدية.
وسط هذا المشهد سطع نجم تشوركين الذي يدير ملفات موسكو في أروقة الأمم المتحدة من خلال منصبه كممثل دائم لبلاده في مجلس الأمن. فتشوركين يردد دائماً أن العالم برمته يواجه تحديات عديدة عليه مواجهتها من خلال جهود السلام، وذلك الكلام ينسجم تماماً مع كثير من الأيديولوجيات التي طغت في فترات عديدة في فضاء الشرق الأوسط وما لبثت أن سقطت، بعد أن سحرت الشعوب حينها لدغدغتها الرغبات الدفينة لتلك الأجيال. لكن بالمقابل لا أحد ينسى كفَّ تشوركين المرفوعةً بالفيتو الروسي على كثير من القرارات الأممية التي تدين إجرام حلفاء موسكو بالرغم من دخول تلك القرارات مدارات عديدة قبل صياغتها.
نجم سينمائي
البراغماتية التي تحكمها المصالح السياسية والاقتصادية، هكذا يلخص تشوركين طريقته في إدارة المصالح الروسية في أروقة المسارح الدولية متعددة الأطراف، الرجل الذي يبدو اليوم بشعره الأبيض ولد في إحدى ضواحي العاصمة الروسية موسكو في شتاء العام 1952. ونشأ في كنف الحزب الشيوعي قبل أن يلعب في الحادية عشرة من عمره دور كوليا يميليانوف، إلى جانب ميخائيل كوزنيتسوف الذي قام بدور فلاديمير لينين عام 1964 في الفيلم السينمائي السوفييتي الذي حاز شهرة واسعة “الرباعيات”. ليتبعه دور آخر في فيلم الأم عن رواية مكسيم غوركي ذائعة الصيت.
تشوركين مندوب روسيا في مجلس الأمن، الذي استخدم الفيتو أكثر من مرة لإنقاذ النظام السوري من السقوط، عاد وبدأ بالتحدث عن الأسد بصورة متأففة تظهر غضب روسيا من تصريحات حليفها
مشواره الفني ما لبث أن توقّف فور اتجاهه نحو دراسة اللغة الإنكليزية. قبل أن يكمل مرحلته الثانوية في العاصمة ويتخرج من معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، متقناً للروسية و الإنكليزية والفرنسية و المنغولية، بدأ تشوركين العمل في أروقة الخارجية السوفياتية منذ ذلك الحين، حيث أتاحت له تلك الفترة الحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ.
قبل ذلك العام بدأ بصقل قدراته التفاوضية عبر العديد من المهام كان أبرزها اشتغاله ضمن وفد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية إلى محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية. وما أن انتهت تلك المفاوضات، حتى عاد إلى أروقة وزارة الخارجية كسكرتير ثالث في مكتب الولايات المتحدة. المنصب الجديد أتاح له الانتقال إلى العاصمة الأميركية واشنطن ليكون سكرتيراً أوّل في سفارة بلاده.
خلال سنوات إقامته في الولايات المتحدة قام الرجل بترسيخ وجوده الأكاديمي من خلال علاقات وطيدة كأستاذ زائر ومحاضر في الجامعات العريقة في أميركا. ليدفع به حضوره الدولي إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ثم مستشاراً لوزير الخارجية السوفييتي حتى انهيار الاتحاد.
ومع قيام الفيدرالية الروسية الجديدة وجد تشوركين طريقه سالكاً في هيكلية وزارة الخارجية الجديدة ليكون مديراً لإدارة الإعلام ومتحدثاً رسمياً باسم الوزارة ثم نائباً لوزير الخارجية وممثلاً خاصا للرئيس الروسي لدى الاتحاد الروسي بشأن محادثات يوغوسلافيا بين عامي 1992 و1994. بعدها عمل سفيرا لموسكو في المملكة البلجيكية ومسؤولا للاتصال الروسي لمنظمة حلف شمال الأطلسي التي تتخذ من بروكسل مقراً لها.
نجاحاته في مهماته المتتالية أعادته إلى المربع الأول في القارة الأميركية سفيراً لروسيا في كندا، قبل أن تتم ترقيته لمدة ثلاث سنوات كسفير متجول في العديد من الدول. ليشغل بدءاً من العام 2006 منصب ممثل الاتحاد الروسي والسفير المفوض فوق العادة لدى الأمم المتحدة.
صراعات العالم
قضايا عديدة كان اسم تشوركين حاضراً فيها كنقطة ارتكاز لحلفاء موسكو. بدا ذلك واضحاً في المحادثات النووية الإيرانية التي انتهت بالتوافق بين واشنطن وعواصم القارة العجوز من جهة وطهران من جهة أخرى. ليعود مرة أخرى فاعلاً إلى جانب المندوب الصيني الدائم منحازاً إلى النظام السوري الذي أدانته جهات عديدة رسمية وغير رسمية.
|
عشر سنوات مضت وتشوركين في منصب المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة. المشهد المعقد أصلاً في الشرق يراه هو من زاوية الخطر الراديكالي الذي يفرض نفسه، ويروج له الدبلوماسيون الروس تحت مسمّى الإرهاب. يحسب له أنه كان أمينا ومخلصاً لأهداف بلاده التي تنوعت في اتجاهاتها التكتيكية والاستراتيجية، حيث ظل مدافعاً عنها في ميادين عدة بدأت في الكونغرس الأميركي، حين كان شاهداً على حادثة انفجار مفاعل تشرنوبل النووي وتداعياته، ثم في أروقة السياسة والاقتصاد التي شملت ملفات بلدان عديدة بدأت بيوغوسلافيا مروراً بصربيا وكوسوفو وحلف الناتو، وصولاً إلى إشرافه المباشر على استخدام حق النقض الفيتو. ذلك الحق الذي طالما استخدمته موسكو لإنقاذ حلفائها من جرائم عديدة تورطوا فيها أمام أعين الجميع.
كان ذلك بارزاً في الثامن من يوليو لعام 2015 عندما رفع تشوركين يده رافضاً اعتبار مذبحة سربرنيتشا الشهيرة كجريمة حرب ضد الإنسانية فضلاً عن أصابعه التي لم تنزل من فضاء مجلس الأمن معلناً وقوف بلاده ضد أيّ قرار يدين إجرام نظام الأسد.
عودة الدب الروسي
تشوركين يرى الشرق الأوسط مسرحاً خالياً للإرادة الروسية اليوم. فهذا الشرق يختلف عمّا كان عليه في وقت سابق، وهو بالضرورة لا يشبه مسألة جزيرة القرم والثورة الأوكرانية والاضطرابات في جورجيا. فتشوركين يحذّر من الخطر الإسلامي الجهادي الذي تمثله فصائل متطرفة ترفرف راياتها في أماكن معروفة للجميع. ويغض الطرف عن الشعب الثائر الذي يخضع لكل الأساليب اللاإنسانية سواء بالقتل أو التهجير والنزوح والتجويع. وهو في ذات الوقت يعتبر كحال النظام الحاكم في سوريا أن التدخل العربي البري، إن حصل، سيكون عدواناً.
في حضوره اليوم يظهر تشوركين وقد أكمل عامه الرابع والستين كنجم سينمائي ملتزم بالسيناريو الكامل الذي رسمه مخرج المشاهد السياسية والعسكرية الروسية فلاديمير بوتين. فنراه يسعى لتبرير عدوان موسكو على جغرافيا لم تكن لها يوماً.
يسبق تشوركين الحدث الجاري على الأرض بتصريحات يحاول من خلالها نفي تعرض أكثر من 163 بناء بين مدرسة ومشفى ومسجد في سوريا، للقصف بالقنابل التي تحملها الطائرات الروسية. يقلل من مصداقية استخدام القنابل العنقودية في حلب مؤخرا. ولكنه يؤكد دوماً أمام الجميع أن هناك طريقاً واحداً للخروج بشرف أمام القادة السوريين وهو الالتزام بالخطة الروسية كاملة. وفي حال خالفوا بنودها أو انحرفوا عن أهدافها فإنهم، أي رأس النظام و الدائرة الضيقة من حوله، ربما يواجهون موقفاً صعباً.
تشوركين يدخل الشهرة لأول مرة في الحادية عشرة من عمره حين لعب دور كوليا يميليانوف إلى جانب ميخائيل كوزنيتسوف الذي قام بدور فلاديمير لينين في الفيلم السينمائي السوفييتي ذائع الصيت "الرباعيات"، ليتبعه دور آخر في فيلم "الأم" عن رواية مكسيم غوركي
ما بعد لافروف
الفيتو الروسي كان حاضراً بحضور تشوركين معبّراً عن سياسة موسكو في ملفات عديدة يديرها الرجل بدبلوماسية تارة وبالتهديد أطوارا من خلال التلويح بشمّاعة الإرهاب. فهو حامل رسائل موسكو إلى العالم بلغات عدة والساعي إلى إطفاء امتدادات نار الحرائق التي تنشرها الآلة العسكرية لبلاده في أماكن عديدة، فمنذ عشر سنوات وتشوركين يؤكد أن روسيا اليوم، ليست روسيا الأمس التي تكتفي بتلقي الفعل دون رد يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية والجيواقتصادية.
واليوم يدير تشوركين الحرب الباردة الكامنة منذ عقود بهدف إعادة الدب الروسي إلى دائرة النكد السياسي الأميركي، بالرغم من تهاوي أسعار النفط وانهيار الروبل والعقوبات الأوروبية التي طالت رموزاً عديدة من أعمدة الحكم في الدائرة الضيقة للرئيس بوتين الذي ظل خارجها.
وبحسب أنباء تتردد عن نية الرئيس بوتين تغيير سياسته الخارجية، من خلال تغيير الوزير سيرجي لافروف، فقد ذكرت مصادر دبلوماسية عديدة أنها تلقّت معلومات من العاصمة الروسية موسكو تتحدّث عن احتمال استقالة وزير الخارجية الروسي لافروف من موقعه. وقالت المصادر إن لافروف طلب من الرئيس الروسي بوتين إعفاءه من مهماته، من دون أن تتضح أسباب هذا الطلب.
ومن المنتظر أن يبتّ بوتين في هذا الطلب، بحسب المصادر نفسها، خلال الأيام القليلة المقبلة.