فن العيطة وسنوات الرصاص في فيلم "ولولة الروح"

الإسكندرية (مصر) - في أول أفلامه الروائية الطويلة، بعنوان “ولولة الروح” يذهب المخرج المغربي عبدالإله الجوهري بعيدا في تقديم موضوع سينمائي حارّ. حيث يتساوق في تقديم الفيلم محوران أساسيان، أولهما فن العيطة، وهو فن غنائي شعبي مغربي، والثاني حكاية عن مرحلة ما يسمى بسنوات الرصاص وهي مرحلة سبعينات القرن العشرين في المغرب، حيث مرحلة الاضطرابات السياسية والصراعات بين بعض قوى اليسار والسلطة.
يحاول فيلم “ولولة الروح” اللعب على دمج قضيتين قد نرى أنهما متباعدتان، وهما السياسة والفن، حيث يسعى الفيلم من جهة إلى تعرية فترة سياسية حرجة مرّ بها المغرب سابقا، كما يحاول من جهة ثانية ترسيخ فن العيطة بتناوله بشكل موسع.
السياسة والفن
عبدالإله الجوهري، القادم من التعليم والتقديم البرامجي التلفزيوني، يطرح في فيلمه الذي كتبه عثمان أشقرا، حكاية عن شاب ترك دراسة الفلسفة، ليتطوع في سلك الشرطة، ويعمل في مدينة خريبكة المليئة بالحراك الثوري اليساري، ليتعرف هناك على مدرس يقود عملية منهجية للتثقيف الثوري من خلال السينما، ثم تحدث جريمة قتل لفتاة، فيقف عاجزا عن حلها، ليجد نفسه في دوامة رهيبة من الأحداث التي تجعله خارجا عن حالته الطبيعة، فيؤثر أن يبتعد عن ذلك الجو الذي لم يناسبه، ويستقيل من منصبه، ثم يرحل إلى بيئته التي أتى منها، ويظهر ضعفه في منطقة جبلية نائية، حيث يكون وحيدا ضعيفا لا يقوى على فعل شيء فيصرخ وحيدا بقوة “أنا لست رجلا”.
في الفيلم إسقاطات فنية هامة، فقد قدم أولا بحثا سينمائيا هاما عن فن العيطة، الذي يقوم في معناه اللغوي على معنى النداء (عيط)، والذي نشأ أيام السلاطين المغاربة وكان يعنى بمواضيع شتى، لكنه أيام الاحتلال الفرنسي صار فنا قائما بذاته، استخدمه المغاربة ليقدموا مقطوعات غنائية موقعة موسيقيا يحمّلونها رموزا خاصة لا يفهمها المستعمر، تقوم على إذكاء روح المقاومة وحب الوطن وضرورة التخلص من المحتل.
وقد شاع فن العيطة في المغرب وصار له أتباع ومشاهير كان من بينهم عبدالله البيضاوي، بوشعيب الجديدي، الشيخ أحمد ولد قدور، فاطمة الكوباس، شامة الزاز وغيرهم.
نسأل عبدالإله الجوهري عن الهدف من تقديم فيلم يعنى بمرحلة شائكة في حياة المغرب وكذلك بحثه عن تأصيل فن العيطة المغربي، يقول المخرج “أردت في فيلمي تقديم أمرين هامين، أولهما تقديم فن شعبي تتفرد به المغرب دون بقية دول العالم، وهو العيطة، الذي لعب دورا هاما في المغرب سواء من الناحية الغنائية أو من الناحية الوطنية أيام مقاومة الاحتلال الفرنسي في المغرب. وكذلك تقديم مستوى آخر يتعلق بمرحلة حياة سياسية عنيفة شهدها المغرب في مرحلة سبعينات القرن العشرين، حيث كان التصادم بين اليسار المغربي والسلطة، وكان هنالك عنف شديد في تلك المرحلة. أردت طرح هذه الفكرة الآن، لأن الجو العربي المحيط مليء بالعنف السياسي والأمني، والمغاربة استفادوا من تجربتهم المبكرة، فهم يريدون طيّ هذه الصفحة المؤلمة من تاريخهم، ولكن ليس قبل أن نفهم لماذا حدث ذلك وكيف، حتى لا نقع في ذات المشكلة لاحقا”.
نسأله لماذا الحديث عن فن العيطة الآن ومن خلال فيلم يحمل مقولات سياسية بحتة، ليجيب “السياسة الآن حاضرة في كل جوانب الحياة، أما فن العيطة الآن فلأنه فن شعبي يتغنى بالمغرب وبأدق تفاصيل المجتمع المغربي، ففي هذا الفن موضوعات تعنى بالمواطن المغربي في يومياته بدقة تامة، العالم الغربي الآن يقوم بفرض لونه وصوته عبر وسائل الميديا المتنوعة وهائلة القوة التي يمتلكها، لأنه يريد من خلالها فرض ذهنيته، وهذا ما يسمى بالعولمة الثقافية، وأنا من خلال هذا الفيلم أعيد إلى الواجهة فنا عربيا مغربيا أصيلا بدأ ينخره النسيان، فلا تعرفه الأجيال الحديثة من شعوبنا، من هنا أردت أن أقدم فن العيطة لكي يقاوم النسيان الذي يريده الغرب المستعمر لأجيالنا القادمة”
قدم الجوهري في الفيلم، شخصية الضابط الذي ترك دراسته للفلسفة وذهب للعمل في الشرطة، ولكنه سرعان ما استقال من عمله، ما جعلنا نسأل المخرج إن كان يمكننا تشبيه ذلك بقصة فاوست، ويعلق قائلا “تماما، هذا ما أردت الذهاب إليه، بعض منظري اليسار في المغرب، وبعد سنوات من التنظير والعمل الثوري وقيادة المئات من الأشخاص في حركة اليسار، تنكر لكل ذلك، وترك هؤلاء الشبان في مهب الريح يواجهون العنف السياسي من السلطة لوحدهم، بينما ذهب بعض هؤلاء وباعوا أرواحهم لرغبات أوصلت جزءا منهم لتولّي مناصب عليا في الدولة التي كانوا يثورون عليها. هذا الخط هو صرخة ألم واستنكار ضد هؤلاء الذين خدعوا شريحة كبيرة متحمسة من الشباب المغربي حينها”.
الفرانكوفونيون التابعون
نسأل عبدالإله الجوهري حول ضرورة تقديم هذا الفيلم في هذا الزمن تحديدا، حيث الحراك السياسي المضطرب الذي يحيط بالعالم العربي كله، والذي يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة سياسيا وديموغرافيا. فيجيب “الفن له دور حاسم في توعية الشعوب، وهو يقدم نماذج وطنية وشعبية هامة تضيف قيمة فكرية للمواطن، نحن في المغرب لدينا هجمة فرانكوفونية كبيرة من قبل البعض من السينمائيين، وأصحاب هذا التوجه يحاولون فرض رؤيتهم للعالم والمجتمع المغربي علينا”.
ويتابع المخرج “هؤلاء لديهم إمكانيات هائلة ويصنعون سينما بمواصفات خاصة وعالية. وأنا كمغربي مثقف حداثي أقاوم ذلك، رغم الهامش الصغير الذي نتمتع به، لكنني سوف أبقى مقاوما، مع بقية الزملاء في هذا الاتجاه، للتصدي لهذا التوجه الذي يريد لمجتمعاتنا أن تكون تابعة للغرب بشكل خاص. هم يريدوننا تابعين أو ميتين، فينشرون الفوضى في كل مكان، لكنْ حريّ بنا ألا نصاب باليأس، رغم ما يقومون به من محاصرة للتجارب السينمائية التي تخالفهم مهرجانيا، أو تسخير بعض الأقلام ضدها، وعلينا العمل بكل طاقتنا للغد”.
ونذكر أن عبدالإله الجوهري، أكاديمي ومثقف مغربي، عمل في التعليم والتقديم البرامجي الثقافي، ثم عمل في مجال الأفلام القصيرة، ونال العشرات من الجوائز في أهم المهرجانات السينمائية في أفريقيا خاصة، ثم قدم الأفلام الروائية الطويلة، في مسيرته أفلام “كليك ودكليك”، “الراقصة”، “ماء ودم”، “رجاء بنت الملاح” وأخيرا “ولولة الروح”.