"فندق الأرق" قصائد تحمل فرادة البساطة وقدرتها على التغلغل في العمق الإنساني

تشارلز سيميك أمير شعراء أميركا: حياتي تحت رحمة شعري.
الجمعة 2025/02/21
ما كان سيميك ليصل إلى شعريته لولا الأرق

يعتبر تشارلز سيميك من أبرز التجارب الشعرية العالمية المعاصرة، ولقصائده انتشار كبير في شتى أنحاء العالم، ولكن رغم تعدد ترجماتها عربيا ما زال الشاعر وعوالمه مجهولين نوعا ما للقراء العرب، خاصة من حيث بناء الشاعر لرؤيته وآرائه في الكتابة والحياة على حد سواء. وفي هذا الصدد ترجم الشاعر المصري أحمد شافعي ديوانا مع مقدمة لسيميك.

أشار النقاد إلى قصائد الشاعر والمترجم الأميركي يوغسلافي الأصل تشارلز سيميك (1938 ـ 2023) بأنها “صناديق ألغاز صينية محكمة البناء”، وصرح بنفسه “الكلمات تمارس الحب على الصفحة مثل الذباب في حرارة الصيف والشاعر مجرد متفرج مذهول.” وفي البيان الذي أعلن من خلاله أمين مكتبة الكونغرس في الثاني من أغسطس لعام 2007 تنصيب أمير لشعراء الولايات المتحدة، قال إنه “من الصعب للغاية وصف سيميك، وتلك ميزة كبرى.” ولكن سيميك أعفاه من هذه المهمة فوصف نفسه لنيويورك تايمز بقوله “أنا شاعر مدينة، فلقد عشت عمري كله في المدن، اللهم إلا في السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة.”

إن مدى خيال سيميك واضح في صوره المذهلة وغير العادية، فهو يتعامل مع اللغة بمهارة الحرفي الماهر، ومع ذلك فإن قصائده سهلة الوصول إليها، وكثيرا ما تكون تأملية ومفاجئة. لقد قدم مجموعات غنية من الشعر المنظم للغاية مع ظلال من الظلام وومضات من السخرية العميقة.

حصل سيميك على الكثير من الجوائز الأدبية، من بينها جائزة بولتزر عام 1990 عن ديوانه “العالم لا ينتهي”، وجائزة جريفين، ومنحة مكارثر، ووسام والاس ستيفنس. وشارك كثيرا بالكتابة لنيويورك رفيو أوف بوكس، وكان أستاذا فخريا بجامعة نيوهامشر التي درِّس فيها منذ عام 1973، كما كان كاتبا زائرا متميزا بجامعة نيويورك.

الشاعر والأرق

◙ "فندق الأرق" يقدم ببراعة اللحظات، المشاهد، التعبيرات، الصور العامرة جميعا بالاحتمالات المتداخلة والبسيطة في الوقت نفسه
"فندق الأرق" يقدم ببراعة اللحظات، المشاهد، التعبيرات، الصور العامرة جميعا بالاحتمالات المتداخلة والبسيطة في الوقت نفسه

ديوان تشارلز سيميك “فندق الأرق” الذي ترجمه وقدم له الشاعر والمترجم أحمد شافعي، وصدر عن المركز القومي للترجمة، يحمل فرادة البساطة وقدرتها على التغلغل في العمق الإنساني وإضاءته وتقديم صور جمالية وفنية مفتوحة على نوافذ العطاء الدلالي.

يفتتح شافعي مقدمته متوقفا مع القصيدة الأولى في الديوان، يقول “ترتفع يد الأب الغاضبة ممسكة الوزير الأسود في شطرنج المساء. فقط. هذه كتابة ـ وإن تكن أقل جمالا ـ للقصيدة الأولى في هذا الديوان. هذه اللحظة المفتوحة على الاحتمالات. هل رفع الأب القطعة منتصرا عليها أم منتصرا بها؟ هل رفع إحدى قطع جيشه ليهاجم بها أم لينجو بها؟ أم أنها من جيش منافسه؟ ثم أين هذا المنافس أصلا؟ لا وجود له في القصيدة. لا وجود له إذن”.

ويتساءل “من أين يأتي الغضب؟ هل أمضى قدما؟ هل أمد الخطوط التي تطرحها القصيدة كلا على استقامته إلى ما لا نهاية؟ هل هذا ما يريد سيميك من قارئه؟ لماذا الوزير الأسود؟ لماذا هذا المساء؟ ثم، هل انتقصت الترجمة من القصيدة بعض دلالاتها؟ إن ما نطلق عليه في العربية ‘الوزير’ يسمونه في الإنجليزية ‘الملكة’. هل لأنوثة القطعة ما تضيفه إلى هذه القصيدة؟ ألا تكتسب القوة التي نعرفها عن وزير الشطرنج شيئا آخر حين تكون الأنثى/ الملكة مكمنها؟ ألا تكتسب القصيدة طعما آخر بهذه القوة الأنثوية؟”.

ويضيف شافعي “لعل هذه أول الطريق إلى ‘فندق الأرق’. فهذا الملمح يسود الديوان كله: اللحظات، المشاهد، التعبيرات، الصور العامرة جميعا بالاحتمالات، البسيطة في الوقت نفسه. هذه الغلبة لتقنيات رسام الطبيعة الصامتة، أو مخرج الفيلم الصامت. ومن ناحية أخرى هذه مشكلة الترجمة الأكثر تعقيدا. الترجمة التي يوجزها بورخيس بقوله ‘ليست بديلا عن النص الأصلي ولكن يمكنها ـ في أفضل حالاتها ـ أن تكون وسيلة ومنبها للقارئ لمقاربة النص'”.

ويشير إلى أن البعض قد يرى أن الترجمة الأدق لعنوان هذا الديوان هي “أرق الفندق” والتي تعني “الأرق الناجم عن المبيت في فندق”، إلا أنه آثر الترجمة كما نجدها على الغلاف لإحساسه أولا بما فيها من سلاسة وثانيا لأن علاقة سيميك بالأرق علاقة استسلام له أو تسليم بوجوده ما دام في فندق، بقدر ما هي علاقة افتتان به، كما يتضح من هذه الفقرة من فقرات “ويقع المينوطور في غرام المتاهة”، “ما كنت لأكون ما أنا عليه الآن لو كنت على مدار عمري أنام بشكل جيد. كل شيء بدأ وأنا في الثانية عشرة حينما أحببت. ورحت أرقد في العتمة أتخيل ما تخفيه الجيبة السوداء، كنت أظن اسمها ماريا لكن اسمها الحقيقي كان إنسومنيا (أرق). وفي عالم مليء بالمشاكل وفرت لي إنسومنيا صحبة أواجه بها الخوف من الظلام، فقد كنت وإياها حبيبين شابين لا أخفيها سرا وكان صمتنا مساويا للكلام”.

ويوضح شافعي “لا يقترن الأرق إذن لدى سيميك بالضجر وربما الغضب وتمني النوم واشتهائه، وإنما هو قرين الانتباه وسط الظلام الذي يهيئه ويوفر المناخ اللازم لقدرته على إطلاق العنان لخياله وطاقات الخلق والتشكيل الكامنة في حلم اليقظة. كما نجد في قصيدته التي يحمل الديوان عنونها. فهي إذن علاقة متينة تفرض على سيميك أن يقيم للأرق فندقا ويسميه باسمه، ويقول في قصيدة من قصائد الديوان: حينما مسستني على كتفي/ أيها الضوء الذي لا توصف روعته/ أسديت لي خيرا كثيرا./ جعلت ـ فقط ـ أرقي يطول”.

أقوال الشاعر

◙ مدى خيال تشارلز سيميك واضح في صوره المذهلة وغير العادية، فهو يتعامل مع اللغة بمهارة الحرفي المتقن
◙ مدى خيال تشارلز سيميك واضح في صوره المذهلة وغير العادية، فهو يتعامل مع اللغة بمهارة الحرفي المتقن

حول مقالة “المينوطور يحب متاهته” التي يفتتح بها قصائد الديوان يذكر شافعي أنه بدأ قراءة “فندق الأرق” وكتابين آخرين لسيميك يجمعان بعضا من مقالاته وذكرياته؛ “وفي أحد هذين الكتابين وعنوانه ‘عراف عاطل’ وجدت مقالة ‘المينوطور يحب متاهته’ ألفها سيميك من فقرات ـ كتبها على مدار السنين ـ متفرقة لا تجمع بينها إلا نبرة في الكتابة لم تفلت من سيميك أو لم يفلت هو منها في كل ما قرأت من نثره. فقرات متتالية لا رابط بينها.”

يقول “أغرتني الفكرة فأخذت بعض هذه الفقرات وأضفت إليها فقرات من مقالات أخرى له وحوارات أجريت معه، استغلالا لفكرة المتاهة أو توسيعا لها. ورأيت أن أجعل من كل هذا مقدمة يقدم بها الشاعر نفسه لقراء العربية الذين أحسبهم لا يكادون يعرفونه.”

هنا يأتي على بعض مما أثاره سيميك في مقدمته حول الشعر وقضاياه إذ يقول “إن كتابة قصيدة نثرية أشبه بمحاولة الإمساك بذبابة داخل غرفة معتمة، قد لا يكون للذبابة وجود أصلا. هي في رأسك، ومع ذلك تظل تكبو وتصطدم بالأشياء في أثناء مطاردتك المحمومة. وقصيدة النثر هي انفجار للغة تعقب اصطدامة بقطعة ضخمة من الأثاث.”

ويضيف “قصيدة النثر نتاج دافعين متناقضين: النثر والشعر، لذلك لا يمكن أن توجد. لكنها موجودة، وهذه هي الفرصة الوحيدة ليتحقق رابع المستحيلات.” ويقول سيميك أيضا “الشعر وحده هو القادر على قياس المسافة بين ذواتنا والآخر. والشكل في القصيدة يشبه نظام أداء الحركات في عرض في السيرك.” ويكتب “القصيدة الغنائية غالبا تأكيد فاضح لعمومية الخاص، وعالمية المحلي، وأبدية الزائل. ويحدث أن يصدق الشعراء. وهذا ما لا يمكن أن يغفره لهم الفلاسفة.”

وفي قول آخر له يصرح “ما الفرق بين القارئ والناقد؟ يتماهى القارئ مع العمل الأدبي بينما يبقى الناقد على مسافة ليرى شكل العمل. القارئ يبحث عن المتعة، الناقد يريد أن يفهم كيف يشتغل العمل. الشبقي والمؤول غالبا متعارضان، مع ذلك ينبغي أن يكونا رفيقين.”

بينما يعتبر “القصيدة دعوة إلى رحلة. وكما في الحياة العادية نسافر لنرى مناظر جديدة. حين بدأت كتابة الشعر عام 1955 كانت الفتيات اللاتي أردت أن أريهن قصائدي أميركيات، وذهلت لأنه لم يكن من الممكن قط أن أكتب بلغتي الأصلية. بالشعر وحده يمكن الإنصات لعزلة الإنسان في تاريخ الإنسانية كله، بهذا المعنى كل شعراء التاريخ معاصرون.” وفي ختام مقدمته يقول سيميك "حياتي تحت رحمة شعري.. كل ما قلته أسيء فهمه”.

قصيدة "فندق الأرق"

كنت أحب حفرتي الصغيرة

بنافذتها المواجهة لحائط من الطوب.

كان في الغرفة المجاورة بيانو

وعجوز أعرج

يأتي إليه بضع ليال كل شهر

ليلعب “سمائي الزرقاء”.

كان (الفندق)، مع ذلك هادئا في الغالب.

ولكل غرفة عنكبوت يرتدي معطفا ثقيلا

يصطاد ذبابته

بشبكة من دخان السجائر وأحلام اليقظة.

ما أشد العتمة

لا أستطيع أن أرى وجهي في مرآة الحلاقة.

في الخامسة صباحا، صوت أقدام حافية تصعد السلم

العراف الغجري

الذي تطل واجهة محله على الزاوية،

ذاهب ليبول بعد ليلة حب.

ولمرة أيضا، صوت طفل ينتحب.

كان قريبا جدا حتى ظننت للحظة أنني الذي ينتحب.

قصيدة "معمار تراجيدي"

مدرسة، سجن، شجرة في الريح،

ارتقيت سلمك المعتم

ووقفت في أقصى زواياك

وجهي إلى الحائط.

جلس القاتل في الصف الأول

وأوفيليا صغيرة مجنونة

كتبت على السبورة تاريخ اليوم.

كان منفذ الإعدام أعز أصدقائي.

كان قد ارتدى بالفعل زيه الأسود.

وأحضر البواب لنا فئرانا لنلهو بها.

في تلك الغرفة ذات المغارب الحمراء ـ

كان الدور على الخلود في الكلام،

فأصغينا

كأنما قدت قلوبنا من حجر.

كل ذلك الآن أطلال جدران مقشورة متصدعة

بنوافذ كلها مكسورة.

ولم يترك مصباح واحد

للسجين المنسي في حبسه الانفرادي،

والتلميذ المتروك وحده

يرقب شجر الشتاء الأجرد

تجلده الرياح العاتية.

قصيدة "حرب"

إصبع امرأة مرتعش

يمر من أعلى إلى أسفل

على قائمة الضحايا

عشية أول جليد.

البيت بارد والقائمة ممتدة.

أسماؤنا جميعا مدرجة.

قصيدة مدينة الأحلام

حدث أن وجد نفسه مرة على سلالم عمارة هادئة يتحقق مما إذا كانت السماء ستمطر عبر زجاج نافذة معفرة، حين رآهما بغتة في الخارج يتمشيان.

كان الأب يلبس الأسود حتى قفازيه وحذاء ثقيلا. وهي الأخرى. لعلهما كانا في حداد لولا عصا مقرفة يحملها.

دار في خلده أن الأب الزمان والفتاة الحقيقة. وكان الأب بالفعل يستحث الفتاة الشاحبة خلف شجيرات الحديقة.

 

13