فنان يرى العالم بعين ثلاثية ويحرر الألوان الداكنة من الكآبة

ليس من اليسير أن يحرر الفنان التشكيلي ألوانه وحركات ريشته من التصورات المسبقة والانتظارات الجمالية والفكرية التي يحاصره بها المتلقي، سواء داخله أو خارجه. وقد يستسهل الكثير من الفنانين التجريد واللعب بالألوان والحركات، لكن في غياب الوعي العميق والتجربة والتفاعل مع عناصر العمل الفني لا نجاح لأي عمل في إحداث الدهشة وهذا ما يعيه جيدا الفنان الجزائري مراد عبداللاوي.
كيف يروي الفنان مقاماته اللونية دون الاستعانة بالرؤى والركض وراء تجريد الصورة الماورائية بدهشة التنقل في تفاصيلها الغامضة كرحلة جمالية مدهشة الاندفاع، حيرة تدفع دوما بالتساؤل، ليس عن جهل، ولكن عن تأمّل حرّ في لحظة السفر في ألوان اللون الواحد وتردّداته وانعكاساتها على مرايا الوقْع المنساب في الحركة وفي التجلي وفي ذبذبات التنقل عبرها، دون ضجّة وبكل الهدوء المحتمل في حكمته وجنونه.
تحملنا الرؤية الغامرة والمغامرة التي يجيدها بحرفية وانسياب وانطلاق حر التشكيلي الجزائري مراد عبد اللاوي، في رحلة بصرية وجدانية فكرية وحسيّة يعيد بها تكوين معانيه العبقرية في لوحته ببصمته التي تعنيه روحا وانسيابا.
روحانيات بصرية
الأجوبة غير مهمة وأنت تتحاور مع الفنان في فضاء اللوحة أو تحاكيه في تفاصيل البداية والنهاية، العالم التجريدي التجريبي تفتحه النقاط الملونة على المساحات الثابتة للرمادي في قيمته الداكنة والمعتمة أو الترابي في تدريجه حسب الفصول اللونية، ويثبّت عبد اللاوي انتمائه للخط وللشكل وللحرف وللطبيعة ولجغرافيا الفن والذائقة لحماية جمالياتها المعرفية.
فالكل ندّ للمعرفة في عوالم الفنان، بمرونة تسريبها، والكل عنصر في التكوين بشغف يراقص به فرشاته، يسكب به ألوانه، يحفر تضاريسها في لوحاته ليجادل تلك المعارف، وكأنه يرتحل في أرض بلا حدود مفتوحة على الإنسان والانسانية.
هي أبواب فكرية لفلسفته البصرية الشمولية، ومنافذ حسيّة من نور يفتحها بين الروح والمعنى، لا تُشرح لا تُبرّر لا تُقرأ، وليس من دورها التفسير لأن المتلقي سيتقمّصها ويتعايش معها، هي دعوة واستدراج فكري عفوي وتلقائية عميقة في بساطتها.
دهشة يقدّمها مراد عبداللاوي كمؤرخ لون وحكّاء منطلق يسرد التفاصيل عبر المفهوم، بتفرّده وأثره المُقتفى على مدى اللوحة، قد يتركك تتوه عمدا بتجليات حسيّة ويقين مُشتهى بين لحظة الإدراك ولحظات الفهم، فتكون سيّد فرصتك في اللوحة وسيّد انتمائك لها كما هو سيّد ألوانه وفيلسوف إيقاعه ووقعه.
البنية التي يؤسّس عليها عبد اللاوي اللوحة لا تكفُّ البصيرة فيها عن التأمل ولا العين تهدأ بعدها عن البحث
في حكمة التصعيد التي يجادل بها عبداللاوي اللون الواحد، حواريّة روحانية واستجداء للمعنى، وكأن اللوحة تقول كلما استبدّ بي الشوق يبتلعني الصمت، هذا ما توحي به لحظة التأمل الأولى التي يتجلى عبرها اللون، تسقط بك بإرادتك إلى مغارة الروح وحدك، تضيّعك في ثنايا التجريد بين اللون وشبيهه بين العلامة ونقيضها في فضاءات معلنة وفي تفاصيل متجدّدة برع في إحيائها من مواسمها من ترابها ومائها ومن صفير الريح في إيقاعها.
هذه الحكمة متوقعة لراكضي الهواء في فراغ التبادل بعيدا عن ضجّة الاستجداء للتفسير، فوحدها اللوحة بكل عناصرها تفسّر المتلقي بحالاته كما فسّرت الفنان بتجلياته عملية تواصل عكسية جديدة في معاني التبادل الحسي والبصري بين اللوحة وصانعها مبتكرها، وبين الفنان ومتلقيه، اصطياد أو اقتياد يبرع اللون فيه من لونه من حركته من ثباته ومن تعاصفه وتهاطله وحتى من قحطه في علامات جامدة في فضائها حيّة في معانيها مقاصدها.
تلتهمنا اللغة البصرية التي يحاكي بها عبداللاوي ألوانه ونحن نمضغ الشوق ونسيل معه بانسياب، نشحذ سكاكين الخيبة في فراغ المدن ونحيبها وهي تقطّع ما تبقى من لحم الحنين لكلاب ذلك الفراغ، بين تفصيل الوقت يعيدنا إلى فقدنا الأول، بين الأوطان الغريبة في رحلة الاغتراب تستدرجنا نحو فضول الاكتشاف التي يدعونا إليها ويحثّنا فيها على الهدوء، تأمل قلق وقلق متفجّر الصمت لا وقت فيه للخيبات ولا لاستسلام المعنى، وحدها الرحلة التشكيلية تعيد أمان العناصر وتطمئنها في التجلي والتماسك.
طمأنينة مخدّرة
التأمل في عمق تجريدي هادئ قد يبدو نوعا من التحرّر أو انطلاقا في فكرة اللاحدود واللاشكل، ولكن شيء ما يستعيدنا إلى الداخل يحرّره عبداللاوي بحركة اليد وهي تقيس سمك الفراغ في تفاصيل المحاكاة التي يستعيرها ليحدث تشكيلاته المستساغة في بحر انقيادها بين فكرتين وتحليق، المادة والحقيقة والروح، ثلاثية يجيد تفكيكها بين التقنية والأسلوب والمساحة واللون ساحر في رمادياته اللامتوقّعة، لذلك يتوافق معها بألفة مدهشة الانسياب وعبقرية تتسرّب منه إلى المتلقي ليعطي للرمادي والألوان الداكنة معنى متجدّدا بعيد عن الكآبة قريب من الواقع لا يخلو من أمل في ثرثرات نوره.
العمل باللون على سطح اللوحة خلق للفنان مساحة، وهو أكثر سمكا في التكثيف والعبور بين الظلال، في إحالة إلى تناغم زمني ومكاني وتناقض هشّ وصلب، فالبنية التي يؤسّس عليها عبداللاوي اللوحة لا تكفّ البصيرة فيها عن التأمل ولا العين تهدأ بعدها عن البحث وكل ذلك يُحدث في الداخل ضجة في التأمل وهدوء في المتابعة.
تخلق أعمال مراد عبداللاوي متعة حسيّة وذهنية تتوازى في مطلق الصورة المنطلق أبعد في تجريده، فهو لا يرى بعين واحدة بل بعين ثلاثية تجتمع على عمقها انطلاقا من السطح من عينه وعين قلبه الضاجّة وعين روحه المحلّقة فارتباطه بالثقافة المعاصرة وتماهيه في مواكبة التجارب واطلاعه على التجريب شرقا وغربا لم تمنعه من خوض تجريبه الحر وابتكار رؤاه وثناياه التي انساب بها وعبر منها إليه وإلى المتلقي وإلى العالم.