فنان مصري يحاور الفراغ ويصنع من الأسلاك أعمالا كاريكاتورية

رغم أن الفنان المصري جلال جمعة قد نال البكالوريورس من كلية الفنون التطبيقية قسم الأثاث والتصميم الداخلي شعبة ديكور في جامعة حلوان عام 1974، إلا أنه تجاوز حدود اختصاصه ليقدم أعمالا فنية لافتة ساهمت في تطويرها دراسته للفن التشكيلي في إيطاليا في الفترة من 1973 إلى 1975. ولكنّ الدافع الأكبر لتطويره تجربة فنية فريدة من نوعها على المستوى المصري والعربي هو شغفه بالفن واعتباره رسالة لا تتوقف عند حدود العمل الفني بل تنطلق منه لتشمل مجالات أوسع. “العرب” التقت الفنان وكان لها معه هذا الحوار حول تجربته الفنية ورؤاه.
يعتبر الفنان التشكيلي جلال جمعة واحدا من الفنانين المصريين الذين ترفعوا عن الحياة المادية ليندمجوا في حياة الفن الأكثر روحانية ومتعة، فاكتفى بعرض مقتنياته الأثرية وببعض الأسلاك المعدنية التي باتت خامته الأساسية لتجسيد لوحاته الفنية التي صنع منها مجسماته الحيوانية وبورتريهاته الشخصية الفنية.
وشكل الفنان بالأسلاك وغيرها من الخامات الكثير من البورتريهات لعل أبرزها بورتريه غاندي بخطوط قليلة. وتبرز الخطوط ملامح الرجل بطلته الشهيرة: الابتسامة والوجه النحيف ونظارته المستديرة.
حوار في الفراغ
• العرب: بدأت في التعامل مع السلك المعدني تشكيليا وفنيا حين التقطت في صدفة عابرة كتلة من الأسلاك المعدنية وبدأت بتشكيلها فتجسدت لك على هيئة غزال فأضفت لها الرأس والساقين لتكتمل، ولكن السؤال الذي يجول في الخاطر بعد مشاهدة تلك التحفة الفنية، بماذا كنت تفكر وأنت تقوم بتشكيلها؟ بمعنى كيف تعاملت مع الفراغ والكتلة من خلال السلك فقط وكيف تجسدت تلك التحفة في عقلك قبل أن تنتقل إلى الأسلاك عبر أناملك؟
جلال جمعة: هذا سؤال جميل جدا، عادة عندما أمسك الخامة أشعر بنوع من التآلف والحوار ما بيني وبينها، وأشعر بأنني أستطيع تشكليها في هذا الوقت بالذات لأنها بالنسبة إلي تشكل حالة فأحدد الموضوع الذي أريد تنفيذه من خلالها وأدرسه تشريحيا إلى الدرجة التي أستطيع أن أقدمه
بالشكل اللائق من حيث الحركة والنسبة والتشريح، كل ذلك بطريقة محسوبة لتظهر بذلك الشكل الناجح.
• العرب: إجابتك تحيلنا إلى سؤال آخر، حين تصنع أو تدرس عملك الفني هل تكتفي بإظهار الإطار العام أو الخارجي له سواء كان ذلك العمل تشكيلا لحيوان أو لوجه إنسان، أو أنك تحاول أن تملأ الفراغ بتفاصيله الكثيرة؟
جلال جمعة: في الحقيقة أنا أتعامل مع الفراغ وليس الكتلة وهذا ما يجعلني فنانا مختلفا عن النحات التقليدي الذي يتعامل مع الكتلة بشكل رئيسي، بالنسبة إلي هناك في الأساس كتلة أقوم بتشكيلها وإضافة أو إزالة جزء منها، فأنا أكوّن الكتلة في الفراغ، وهنا تحديدا ينشأ حوار ما بيني وبين الفراغ، والذي من خلاله أجعل المتلقي يعيش ضمن الفراغ ويرى من خلال الأسلاك والتشريح الشكل الفني النهائي بطريقة جديدة.
• العرب: الذي يتابع أعمالك المنفذة عن طريق السلك وخاصة بالنسبة إلى البورتريهات يلاحظ أن لديك خطوطا مماثلة ونفسا مشابها لفناني الكاريكاتير فهل هذا صحيح؟
جلال جمعة: فعلا عملي قريب جدا من فن الكاريكاتير، لأن من مهام فنان الكاريكاتير في البورتريه إبراز الملامح الظاهرة جدا في الشخصية، فمثلا لو كانت العيون واسعة أقوم بالمبالغة في إظهارها أو لو كان الفم صغيرا أو كبيرا، كما فم الفنان المصري إسماعيل ياسين، فسأقوم بتكبيره.
أحيانا تكون هناك تفاصيل تميز الوجه كالتجاعيد، أو أن لدى الشخصية أنف صغير جدا أو غريب أو حتى ضخم، كل هذه التفاصيل أؤكد عليها كما يؤكد رسام الكاريكاتير، وكل هذه الملامح التي تظهر في البورتريه تجعل الشبه كبيرا ما بينه وبين الشخصية الحقيقية.
الفنان بطبيعته لديه رسالة عليه تقديمها وتلك الرسالة تتضمن توصيل ما يعرفه أو تعليم الأجيال دون مقابل
• العرب: تصف عملك بالأسلاك على أنه نوع من الفن الذي تتجسد فيه الراحة ويساعد على غسيل الروح بعيدا عن الأعمال الأخرى التي تمارسها، لذلك نريد أن نعرف بعيدا عنه ما هو عملك الأساسي؟
جلال جمعة: أنا خريج كلية الفنون التطبيقية دفعة 1974 قسم التصميم الداخلي في الأساس، وكنت أعمل كمصمم للديكور وكمنفذ له ضمن مصنعي الخاص.
لقد عملت لسنوات طويلة في هذا المجال ونفذت أعمالي في أماكن هامة في مصر مع شركات البترول والمطاعم السويسرية وبعض الفنادق الفخمة والكثير من المحال التجارية العامة والمنازل والفلل، ولكن وبعد الثورة أي في العام 2011 قررت أن أتفرغ تماما للفن التشكيلي كهواية أريد إشباعها وأن أستمتع بها في ما تبقي لي من حياتي، وطبعا كنت حينها قد أتممت رسالتي في الحياة وتربية أولادي وإتمام تعليمهم وتزويجهم.
• العرب: أطال الله في عمرك، لكن كلامك السابق يؤكد أن عملك الفني في الأسلاك على الرغم مما يحمل من إبداع ومما يستهلكه من جهد ووقت هو ليس ذا مردود مادي إلى درجة أنك تعتبره نوعا من الهواية والاستمتاع؟
جلال جمعة: عندما فكرت في التفرغ لهذا الفن لم أفكر في الأمر من الناحية المادية فهي لم تعد تهمني حقيقة، وخاصة بعد أن أتممت رسالتي في الحياة مع عائلتي، والحمد لله أنا بوضع مادي جيد لا ينقصني اليوم سوى نشر البهجة بين المتلقين والمشاهدين وأن أجلب السعادة لهم عبر موضوع فني جديد والفنان بطبيعته لديه رسالة عليه تقديمها وتلك الرسالة تتضمن توصيل ما يعرفه أو تعليم الأجيال دون مقابل، وأنا أجد سعادتي في ذلك.
• العرب: بما أنك تطرقت إلى رسالة التعليم، سبق وأن أقمت لسنوات ورشا لتعليم الأطفال فن السلك في دار الأوبرا، فكيف كانت ردة فعل أهالي الأطفال تجاه ذلك الفن الخطر سواء من حيث التعامل مع السلك كمعدن أو من حيث الأدوات التي تستخدم لتليينه وقطعه؟
جلال جمعة: الورش مازالت مستمرة ولكنني حاليا أقيمها فقط في بيت جلال، أما بالنسبة إلى خطورة الأسلاك على الأطفال فأنا أبدأ الخطوة الأولى معهم بتعليمهم طريقة التعامل مع الخامة، أي السلك، وكيف يمكن استخدام الأدوات لتشكيله بسهولة ويسر دون التعرض للأذى.
أشرح لهم الكثير من التنبيهات للحفاظ على الزملاء وعلى العيون وعلى الأيادي وغيرها، إلى أن يستتب الأمن في العمل، كما أن الورش بالنسبة إلى الأطفال تبدأ من عمر 9 سنوات وحتى 18 سنة، والمتدربون الأكبر سنا أكثر فهما ووعيا ويقدمون النصيحة أيضا لزملائهم الأصغر سنا، كما أن الخامة نفسها تجذبهم لإعادة تشكيلها، بمعنى يحبون العمل معها والذي يحب شيئا ما فإنه يحاول أن يتجنب أذيته.
البيت المتحف

• العرب: منذ سنوات التقينا في القاهرة تحديدا في مكتبة الجامعة الأميركية، وكان لديك معرض يحتوي على العديد من التحف والمقتنيات الأثرية، ماذا عن ذلك المشروع وتلك المقتنيات هل انتقلت هي أيضا إلى متحف بيت جلال؟
جلال جمعة: يحتوي بيت جلال متحفا كاملا لأعمالي الفنية ومقتنياتي وأعتقد أنني اليوم أمتلك أكبر مجموعة في مصر من الأدوات القديمة التي اندثر بعضها كالآلات الكاتبة والمكاوي ومكنات الخياطة ولمبات الغاز، وبعضا من الآلات الموسيقية والساعات وأدوات الطبخ كـ”البوتوغاز” القديم جدا، والذي كان يعمل بطريقة الغاز الطبيعي.
لدي تقريبا أكثر من 150 قطعة وتحفة فنية مما يعني أن لدي متحفا كاملا، وأتمنى من الأجيال زيارته للاطلاع على مقتنياته، لأنها ستنقرض قريبا.
تجميعي لهذه المقتنيات هو نوع من الهواية، فأنا لا أفكر في بيعها وأستمتع جدا بمشاهدتها وبيتي كله أنتيكات قديمة لها تاريخ، فعلى سبيل المثال لدي مقتنيات تعود للعام 1800، أي أنها قديمة جدا، وتعكس تاريخا قديما، وهي أشياء بالنسبة إلي ممتع جدا تجميعها وكل يوم أعدل في ديكور المنزل والإكسسوارات الموجودة فيه، وأشعر أن هذه الأشياء ليست فقط مقتنياتي وإنما هي جزء من حياتي لا أستطيع الاستغناء عنه.
• العرب: وهل بيت جلال أو متحف جلال متاح زيارته للعموم وهل تخضع زيارته لرسوم؟
جلال جمعة: بيت جلال متاح طيلة أيام الأسبوع عدا الجمعة، وهو مجاني دون أي رسم للدخول، ويتم من خلاله بيع البعض من أعمالي المنفذة عبر الأسلاك، كما يتم عرض لوحات لمشاهير من الفنانين مثل جورج البهجوري ومصطفى رحمة ووديع يسر ومصطفى حسين وصلاح جاهين أحمد طوغان ومحمد عفت ومحمد حاتم وسمير عبدالغني.
وهناك أيضا أعمال للفنانة إيمان حكيم وماهر دانييل وبعض من هذه الأعمال معروض للبيع والبعض الآخر للعرض فقط في المتحف، والزائر يستمتع بمشاهدة نوعيات مختلفة من الفنون من نحت وتصوير ومقتنيات خاصة، وكلها أعمال منتقاة تجمع ما بين خصائص العمل الفني الناجح وموهبة الفنان ومكانته على الساحة التشكيلية في مصر أو في الوطن العربي عموما.
