فنان ليبي يلوذ بالتجريد ليرسم وطنا مُبهجا

قد يكون صحيحا أن الفن يواسي من خذلتهم الحياة، ذلك أن الواقع اليومي المتلاحق في ليبيا يشكّل مادة مفتوحة للإنتاج الفني، فهنا مشاهد دمار وعنف وهناك نزوح وبكاء. ويتّفق الفنان الليبي عبدالقادر بدر على قتامة المشهد، لكنه لا يحبّذ الأعمال السوداوية والمحزنة، لذلك تبحث لوحته عن البهجة.
يستمد الفنان التشكيلي الليبي عبدالقادر بدر أفكار لوحاته من خلال اهتمامه بالعمارة القديمة في ليبيا وشمال أفريقيا والمغرب العربي. بهرته العمارة الإسلامية وزخارفها المميزة كثيرا، وهي التي تظهر قدرتها على التفرد والإبداع والقيم الجمالية الأصيلة لتراثنا البصري والمعماري، من قلاع ومبان ومساجد وأقواس وأبواب، ومن جمال الطبيعة المتوسطية، ومن سطوع ألوانها التي أثرت في مخيلته واستلهم منها الكثير من لوحاته التجريدية والتكعيبية. لوحات أنجزها بدر داخل ليبيا وتونس والمغرب.
مشروع جمالي
تعج لوحات التشكيلي الليبي بالدلالات الرمزية وفق تكوينات جزئية مترابطة في مجموع التكوين الكلي لأثره الفني، مما يشكّل إسقاطا ما، إذ هناك بشر تحيط بهم أسماك، قوارب، بحر وغيوم.
وعن هذا الإسقاط الرمزي، يقول بدر “الفنان يمتلك بطبعه الإحساس بقوة الأشياء وحالات التعبير عن نفسه، والأثر الفني قيمته تكمن في عناصره وارتباطها بالرموز والدلالات، وهو يحتاج إلى اكتمال وقوة حتى يتسنى للمتلقي الانبهار به وتقبّله. كما أن جاذبية العمل من شأنها أن تشدّ المشاهد، وهذا يعتمد على خبرة الفنان ووعيه بأدواته ومعالجته التقنية وتوظيف الدلالة الرمزية التي تدفع المتذوّق إلى الاستغراق والتأمّل، الأمر الذي يشكّل مفاتيح النص التشكيلي”.
ويضيف، “عموما أعمالي التجريدية أو تجاربي الفنية ليست هروبا من الواقع، بل هي جوهره، وهذه الوسائط خامات الفنان الأولية، وهي اللغة التي يخاطب بها جمهوره”. ويؤكّد بدر أن الفن التشكيلي التجريدي هو نتاج فهم عميق وجوهري للواقع بكل مكوناته ورموزه، وإعادة صياغتها بأسلوب يلامس الروح والقلب.
والفن، عنده، هو الذي يؤسّس لعلاقة متينة بين الفكر والإبداع من أجل فهم خبايا أسرار الكون والحياة. ويضيف، “الفن، هو نوع من امتلاك الإحساس بقوّة الأشياء الموجودة بين تفاصيل علاقتنا بالآخرين، وهو مرتبط بالحياة ارتباطا وثيقا أحدهما يعطي للآخر ويؤثّر فيه ويتأثّر به”.
ويستطرد موضّحا، “الفن التشكيلي، من خط ورسم وتصوير، وسيلة للتوثيق كموروث ثقافي، هو أسلوب من أساليب المحافظة على الهوية الثقافية وحفظ التراث وتوثيقه والاهتمام به، والإضافة عليه وليس تقليده، فلا يمكن حفظ القديم دون تجديده”.
وعلى غرار الفسيفساء الحجرية قدّم بدر لوحات فنية تشبه فن الكولاج. عن ماهية الأبعاد الفنية والجمالية المضمرة في خطابه الفني حول تجربته تلك، تسأله “العرب”، فيجيب، “مرحلة فن الكولاج وتعاملي معه كانت وسيلة أو قفزة ساعدتني في إنجاز أعمالي التجريدية. هي تجارب استلهمت منها الكثير من عناصر ورموز التراث الشعبي لإعادة صياغة مفاهيمها الأساسية وإبراز جمالية هذه الأشكال وألوانها، التي هي عنصر جوهري في العمل الفني”.
ويشير بدر إلى أن للمكان خصوصية تؤثر في اختيار موضوع لوحاته، فالعمارة والمباني القديمة وآثار الزمن على الجدران والأبواب والشوارع والأحياء القديمة التي عاش فيها آباؤه وأجداده والأحداث التي مرّوا بها وأسلوب حياتهم، كل ذلك يشغل حيّزا كبيرا في أعماله. ويضيف، “أعمالي البحرية، من قوارب وموانئ وحكايات الصيادين وأساطيرهم، تشكل خلفية كبيرة لأعمالي الفنية، وهي توضّح إحساسي الكبير بالمكان بجميع أبعاده”.
خط ولون
في لوحات عبدالقادر بدر التجريدية تقاطعات وكائنات وتأثيرات لونية، تضع المتلقي أمام خيارات كثيرة. وهنا تسأله “العرب”، إلى أي مدى يشغله المتلقي، فيوضّح، “المتلقي يلعب دورا كبيرا في عملية التأمل وتقبّل العمل الفني من عدمه. وفي حالة وجود عناصر ورموز تشكيلية، وما يحتوية العمل من ألوان وكتلة ورموز قريبة من واقعه، تصل الفكرة بسهولة إلى الآخر المتقبّل،
والذي هو جزء لا يتجزأ من العمل الفني”.
ويشير بدر إلى أنه يحاول، من خلال أعماله التجريدية البسيطة وغير المعقدة، تقريب فهمها وعدم تصعيبها على الجمهور، فهدفه تقليص الفراغ وتقريب المسافة بين الجمهور والإبداع التشكيلي.
ويضيف، “صدق المنجز الفني والفكرة له دور كبير في التأثير على المتلقي ومدى تقبّله للعمل الفني، فهو المرآة الحقيقية لنجاح الفنان وأعماله الفنية. وعلى الفنان مسؤولية نشر الوعي وتذوّق العمل الفني وخلق تواصل مع المتلقّي لفهم العمل الفني، وهو، أي الفنان، إن لم يلامس إحساس الناس، لن يكون فنانا أبدا”.
والملفت لدى بدر غياب الإنسان، تقريبا، في لوحاته، في حين تحضر أشياؤه، وكذلك مشاعره، أفراحه وأحزانه وهمومه، ما يقيم الدليل على مساحة الحرية التي يمنحها له التجريد، ذلك أن تعامله مع اللوحة دائما ما يتم بطريقة مدروسة غير عبثية، فكل خط وشكل ولون وضع بعناية وفي مكانه الصحيح.
وعن ذلك يقول، “التجريد يمنحني الحرية في التعبير والخروج عن المألوف والقدرة على ترجمة الأفكار الذهنية والعواطف والأحاسيس والمشاعر إلى أشكال فنية”.
ولا يتّفق بدر مع مقولة أن التجريد قد يضع الفن في فخ التكرار. وهو يرى أن الفنان الحقيقي بإمكانه خلق نوع من التنوّع بين لوحة وأخرى.
ويقول موضّحا “لوحاتي حكايات وروايات لا تنتهي من عمل إلى آخر، وهي مرتبطة ببعضها البعض في العديد من الأحيان، ولا أعتقد أني أكرر لوحاتي فلديّ الكثير من الأفكار والمواضيع التي أتمنى إنجازها والتنوع في أعمالي يوضح ذلك، وهو راجع إلى هواياتي الكثيرة واهتمامي الكبير بالرياضات البحرية وعشقي للبحر ورياضة الشراع خاصة، وما خبرته في حياتي عبر ذاكرتي التسجيلية للأماكن والأحداث التي تساعدني كثيرا في استلهام مواضيع أعمالي”.