فنان البسطاء والمهمشين

لم يمهل الموت الفنان التونسي ياسر جرادي ليكمل جولته الفنية التي تحمل عنوان "ياسر محبة"، أجلت بعض حفلاتها للأبد.
الأربعاء 2024/08/14
ياسر صمت وغادر فجأة

قرأت ذات مرة أن "الموسيقى تأتي في المرتبة الثانية بعد الصمت، عندما يتعلق الأمر بما لا يوصف". لا أعلم من قائلها، لكن وجدتني أتذكرها بمجرد سماع خبر رحيل الفنان التونسي الملتزم ياسر جرادي.

ياسر الذي جعل صوته ريشة تصور وتصف وتلون كل ما يفكر فيه التونسيون ويرغبون في وصفه لكنهم يقفون عاجزين، حين لم يملك كلمات أخرى تكفي لوصف الحياة على هذه الأرض، صمت وغادرها فجأة.

لقد كان فنانا مختلفا، ابن الشعب، قريبا منه، محبا له، مدافعا هادئا عن الطبقة المتوسطة والمهمشة، سخّر صوته للغناء بأثمان بخسة، وأحيانا كثيرة بالمجان، مشجعا كل المبادرات الفنية وخاصة تلك الموجهة للفئات المهمشة وأبناء المناطق الوعرة. سلاحه الوحيد دراجته الهوائية وقيثارته يحملهما معه ليجوب ربوع الوطن، يزينهما بكلماته وصوته، كما يزين جسده بثياب بسيطة تعبر عن هويته التونسية والأفريقية، ليرسم لمحبيه في كل شبر من تونس الأمل بغد أفضل، ويذكرهم بما عانته هذه البلاد من أنظمة حكم جائرة ركزت ناظريها على المدن وتناست أعماق الوطن.

ياسر جرادي الذي يحمل من اسمه الكثير فهو “ياسر” بالفعل (عبارة تونسية تعني كثيرا)، كان فنانا متعدّد التجارب، فقد جمع بين التشكيل والموسيقى والكلمات كما اشتغل على الحرف العربي برؤى جمالية معاصرة، وهو أيضا فنان مسرحي.

أسّس في 2005 مجموعته الموسيقية “ديما ديما” التي قدّم من خلالها سلسلة من الأغاني الملتزمة حيث اتخذ منهجا متفردا بالغناء عن المهمشين والعاطلين عن العمل والوطن مثل “شبيك نسيتيني” و”ما تخافيش” و”ذبّان” و”وحدي” و”نهار خريف” و”عمري ما ننسى الحكاية” و”يلي متحبنيش”، كما لا ننسى أغنيته “نسمع فيه يغني” المهداة إلى روح المناضل التونسي الراحل شكري بلعيد.

Thumbnail

ومن أشهر أغنياته “نرجعلك ديما ديما” التي كتبها ولحنها إثر جولة قام بها على كامل البلاد التونسية على دراجته الهوائية، وتغنى فيها بـ”عرق البناية.. اللي يهبط على الحجر يذوب.. باللي رجليهم حفايا.. واللي تعبوا مالمكتوب”.

كانت كلمات ياسر بسيطة مثله لكنها عميقة، تثير في نفس من يسمعها ألف سؤال وسؤال، تذكره بانتمائه إلى هذه الأرض، توجه بوصلته نحو القضايا الإنسانية الكبرى التي إن غابت عن أغنياته حضرت في رسومه ومخطوطاته وحتى في تصريحاته الإعلامية القليلة.

كان يذكّر دائما بمأساة مدينته قابس التي ترزح منذ سنوات تحت كارثة بيئية يتسبب فيها المجمع الكيمياوي الذي أثّر في صحة أبنائها وجعلهم يشكون من أمراض لا حد لها.

رغم كل أوجه المقاومة التي أظهرها دوما، اتهم ياسر منذ أسابيع قليلة بالتطبيع لمشاركته في مهرجان تدعمه جهات مطبعة، وشنت حملة ضده مطالبة بإلغاء حفله في مهرجان دقة الدولي، لكنه برر موقفه بأن قيمة الحفل ورسالته أكبر من مجرد مستشهرين يدعمون تقريبا كل المهرجانات التونسية، وكان حفله ناجحا.

لم يمهله الموت ليكمل جولته الفنية التي تحمل عنوان “ياسر محبة”، أجلت بعض حفلاتها للأبد، لكنّ محبيه قرروا أن يكملوها بأصواتهم وكلماتهم وحكاياتهم معه، كلمسة وفاء له.

إنه “ياسر محبة” (كثير من المحبة) كما يصفه عنوان عرضه الموسيقي، كان كثيرا من كل شيء، سواء أحببته أم اختلفت معه، عرفته أم لا، فذكراه ستظل تذكّرنا بتونس، بثورة حلمنا فيها ببلد أكثر أمنا وحرية واستقرارا، بأننا لازلنا نحلم ونقاوم واقعا محبطا للآمال، سيذكّرك ياسر بالكثير من الأحلام المؤجلة وبالأصدقاء والمناضلين الراحلين وبمن يشبهونك من أبناء الشعب البسطاء.

18