فنانون في القرنة بمصر يرثون جينات نحت التماثيل من الفراعنة

الأقصر (جنوب مصر) - أمام طاولة قصيرة، تتناثر عليها معدات صغيرة تشبه أدوات الأطباء، يجلس سيد المطعني ممسكا بتمثال صغير، يحركه بين يديه يمينا ويسارا، ومن الأعلى إلى الأسفل، في محاولة لاكتشاف ما ينقص تمثاله المصنوع بأنامله على التمثال الأصلي.
يعتمد المطعني، صاحب الـ73 عاما، في نحت التماثيل على الصبر، وشراهة تدخين السجائر التي لا يتركها من يده، ويمكن أن يستغرق الانتهاء من تمثال واحد طوله بضعة سنتيمترات، عدة أسابيع، فهو يريد أن يكون مختلفا عن المصانع التي تستخدم طرقا حديثة وآلات خاصة في نحت التماثيل عن طريق السكب في القوالب.
لا تنتشر ثقافة نحت الآثار بين سكان المناطق الأثرية في صعيد مصر بشكل واسع، لأن مكاسبها بعيدة، وأي خطأ يعرض صاحبه للخسارة، وربما يفشل في تسويق القطعة الأثرية، ويلجأ لإعادة نحتها من جديد لتدارك الخطأ، حتى لو كان في رسم حرف فرعوني أو نقوش صغيرة على الحجر.
تحتاج المهنة إلى شخص هادئ الأعصاب، لا يصاب بالملل سريعا، مع الثبات والاحترافية وقوة الذاكرة، لإتقان حفظ رسم النقوش وكتابة الأحرف الفرعونية دون خطأ أو تحريف أو ميل زاوية عن أخرى، خصوصيات تجعل من إقبال الشباب على نحت الآثار الفرعونية أمرا صعبا.
يستخدم السبعيني في نحت التماثيل يديه بإتقان ويتحكم في حركتهما بعناية شديدة مع بعض الآلات الصغيرة التي يضعها إلى جواره في مكان لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار مربعة، ويرفض أن يمتلك ورشة حديثة، لأنه يتمسك بالطريقة التقليدية التي تعلم بها النحت على يد أجداده، ويقول “يكفي للشخص أن يؤمن بموهبته ليصنع من خلالها المعجزات، ويتفوق على كل الآلات”.
جبل القرنة أغنى جبل أثري في العالم لاحتوائه على المئات من المقابر الفرعونية و11 معبدا قديما
يعيش النحات في منطقة القرنة غرب مدينة الأقصر، بالقرب من جبل القرنة الأثري الممتد لأكثر من خمسة كيلومترات. ويقول علماء المصريات إنه أغنى جبل أثري في العالم لاحتوائه على المئات من المقابر الفرعونية و11 معبدا قديما، ولا يزال باطنه يحتوى على قرابة 850 مقبرة تنتظر نفض الغبار عنها والوصول إلى محتوياتها من آثار ونقوش ورسوم مضى عليها قرابة خمسة آلاف عام.
موهبة وصبر وعزيمة
يقول المطعني لـ”العرب”، إنه يحترم فن النحت باليد، دون آلات متطورة يمكن أن تحدث خدوشا وكشطا بالتماثيل، وهذا حتمي، “أما تماثيلي فهي تبدو للوهلة الأولى فرعونية حقيقية، لكنها ليست كذلك، ويكفي أن منزلي صار أحد مزارات السياح الراغبين في اقتناء تذكار من الحضارة الفرعونية”.
ويضيف، “نحت التماثيل يحتاج إلى موهبة وعزيمة وصبر مع حب المهنة والاستمتاع بشكل الأثر، وهو يتقلب يمينا ويسارا بين يدي النحات، أما صناعة التماثيل، فهي تعتمد على خفة اليد في تشغيل الماكينة.. هناك فرق شاسع بين الاثنين، ومن يتقن الموهبة يصبح بارعا ويكسب أضعاف أصحاب المصانع الأثرية، حتى لو نحت تمثالين فقط في العام الواحد”.
ميزة نحات الآثار، أنه قارئ جيد للحضارة القديمة، وكل تمثال يقدم على نحته، لا بد أن يقرأ عن شخصيته والأسرة التي ينتمي إليها، وصفاته ومميزاته وعيوبه وعمره وعدد زوجاته، ويحفظ شكله الحقيقي عن ظهر قلب، من حيث مكان العين وحجمها ووضعها في الوجه، وكذلك الفم والأذنين، ووضعية اليدين أو القدمين، ويحرص على أن تكونا متساويتين، أو مائلتين قليلا، أي الحالة التي عليها التمثال الأصلي، وكل ذلك يتطلب إدراجه في عملية النحت حتى يبدو التمثال قريبا من الأصل.
أما الرسومات والنقوش والأحرف الخاصة بكل تمثال فرعوني، فيقرأ النحات أولا عن تفاصيلها بشكل جيد، ويعرف أهدافها وإلى ماذا ترمز، والرسالة المراد توصيلها من خلال هذا الحرف أو النقش، لذلك يمتلك كل شخص موهوب في النحت مجموعة كبيرة من الكتب التي تتحدث عن الأسر الفرعونية وتاريخها ومدة حكم كل منها.
ينحت أكثر الموهوبين في هذا المجال، حسب الطلب، وليس من تلقاء أنفسهم، أيّ أنهم لا ينحتون تمثالا إلا إذا كان هناك شخص يريده، بحيث يأتي بصورة له أو مقطع فيديو خاص به، ليقوم النحات بقراءة تاريخ صاحب التمثال جيدا، وحفظ الشكل ثم البدء في النحت.
لقد كسب هواة نحت التماثيل خبرة واسعة في التفرقة بين الآثار الحقيقية والمزورة، بحكم قراءتهم الجيدة للتاريخ الفرعوني، يقول المطعني “ذات مرة كنت ذاهبا إلى معرض دولي أثري، وأنا في المطار صادفت حادثة إلقاء الشرطة القبض على سائح أجنبي متهم بأن بحوزته تمثالا صغيرا، قالت الشرطة إنه لرمسيس الثاني واكتشفت بخبرتي أنه منسوخ وليس أصليا، لأن رمسيس كان فرعون مصر ولم تكن تماثيله صغيرة، وأبلغتهم بذلك وباستدعاء الخبير الأثري أكد كلامي وتمّ إطلاق سراح السائح”.
يمتلك المطعني، الملقب في مدينة الأقصر، بأنه شيخ النحاتين، مجموعة كبيرة من الكتب الفرعونية، وساعده على قراءتها أنه يتقن أكثر من لغة أجنبية، ويتحدث وكأنه عاش لسنوات في أوروبا، بالرغم من أنه لم يسافر خارج مصر سوى للمشاركة في المعارض الأثرية.
وشارك شيخ النحاتين في معرض بازل الدولي، وميونيخ في ألمانيا، وفي فرنسا بمعارض مونت كارلو ومرسيليا ومعرض باريس الدولي، وبرشلونة، وأكسفورد في لندن، وشارك بأعماله في هذه المعارض داخل الجناح المصري، وطلب منه مسؤولو وزارة الآثار أن يتعمد وضع علامة خاطئة في التماثيل التي ينحتها، كي لا تكون مطابقة للأصل، ولا يؤثر سلبا على صورة الآثار المصرية القديمة.
كول وآل غور وشيراك
يقول شيخ النحاتين، “أهديت أعمالي المنحوتة إلى بعض قادة العالم، مثل هلموت كول المستشار الألماني الأسبق، بعدما طلب جُعرانا كبيرا لتوت عنخ أمون وكتبت اسمه عليه، وآل غور نائب الرئيس الأميركي في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ونحت له تمثالا فرعونيا، وفعلت الأمر ذاته مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك حينما زارني في معرض باريس”.
وأتاح التاريخ الفرعوني والأثري لمدينة الأقصر، لهؤلاء النحاتين ميزة استثنائية لصناعة تماثيل قريبة من الأصل، خاصة وأن جبل القرنة يعج بالأحجار القديمة التي كان يستخدمها الفراعنة في نحت التماثيل، وهي متعددة الألوان والخامات، مثل المرمر والغرانيت والحجر الجيري، وبالتالي لا يحتاج منهم الأمر سوى إلى الاحترافية في النحت على الأحجار الأصلية.
ويتمسك شيخ النحاتين المصريين، بأن الفراعنة القدامى، لم يستعينوا بأحجار من الخارج لنحت تماثيلهم وبناء معابدهم، وكل شيء موجود في مصر، وبالإمكان بناء حضارة فرعونية حديثة إذا انتشرت ثقافة فن النحت بين الأجيال الجديدة، لكن ذلك صعب لغياب الاهتمام الرسمي بالآثار، وغياب الوعي الأثري لدى الجمهور. ويقول علماء الآثار، إن اكتشاف تزوير القطع المنحوتة حديثا أمر صعب على غير الخبراء، لأن هذه التماثيل يتم تقليدها بموهبة عالية، وحسم أمرها يتطلب خبرة موازية، وعلما عميقا بالمصريات، لذلك يمكن أن ينخدع فيها بعض الناس بسهولة، لكن التقليد الحرفي مستحيل، لأنه يحتاج إلى موهبة خرافية وألوانا خاصة.
ما ساعد الشاب الثلاثيني ياسر الأسرون، المقيم بمنطقة القرنة، وهو أيضا من هواة فن النحت، على التمكن من المهنة، أنه تخرج في كلية السياحة والفنادق، وقد ترسخت لديه منذ أن كان طالبا، هواية النحت الأثري، ولا يمانع في أن يستمر في نحت تمثال واحد لأكثر من عام.
يجلس ياسر الذي تعلم المهنة على يد والده وعمره 16 عاما، بغرفة صغيرة في منزله بمنطقة القرنة، وتتناثر في الغرفة مجموعة تماثيل انتهى من نحتها قبل أسابيع، لكنه يتركها فترة كي يقوم بتغيير لون الحجر باستعمال مادة كبريتية، ليكون قريبا من الأصلي، وبعدها يقوم بتسليمها إلى الزبائن الذين طلبوها منه، والحصول على باقي مستحقاته المالية.
طبق الأصل
بدأ ياسر في نحت تمثال رمسيس الثاني قبل عام، ولم ينته بعد، ويقول “صبرت كثيرا، لكن العائد كبير للغاية”، وأحيانا يصل سعر التمثال الواحد قرابة مليون جنيه (55 ألف دولار)، حسب قوله.
وأكثر زبائن التماثيل المنحوتة من الفئات الميسورة الشغوفة باقتناء الآثار، وهؤلاء يريدون أن تكون لديهم قطع أثرية قريبة من الأصلية، ويصعب كشف الفارق الزمني بين الحديث والفرعوني، وهذه النوعية من الناس أكثرهم يمتلكون قصورا، حسب كلام ياسر.
غير أن الفئة الأكثر طلبا للآثار المنحوتة باحترافية، من الراغبين في بيعها على أنها قديمة (أصلية)، وهؤلاء لهم طرق خاصة في الثراء، إما بدفنها مرة أخرى في الرمال وتصويرها في مقطع فيديو على أنها جزء من مقبرة أثرية ثم عرضها على تجار آثار، أو بيعها بشكل مباشر لهواة اقتناء التماثيل.
ويتمسك النحاتان (المطعني والأسرون) بأن أكثر التماثيل التي يتم ضبطها في قضايا ليست أصلية، خاصة التي تكون بحوزة السياح في المطارات، لأنها منحوتة حديثا، لكن من شدة الحرفية في النحت يصعب اكتشاف الفرق بين الأصلي والحديث سوى من خلال علماء آثار.
الرجل السبعيني والشاب الثلاثيني، معروفان جيدا لدى أجهزة الأمن، فالأول يقول، ذات مرة “هاتفوني للتأكد من أن التمثال المضبوط بمطار الأقصر أنا الذي قمت بنحته، لأنه شديد الشبه بالأصل، وقلت لهم نعم”.
والثاني (ياسر) يؤكد أن الأمر ذاته يحدث معه، “في أحيان كثيرة يتم القبض على أشخاص بحوزتهم تماثيل قمت بنحتها، والأمن يسألني وأقول لهم إنني من قمت بالنحت، أي أن التمثال ليس أصليا”.
ويثق نحاتو الآثار بالأقصر في قدراتهم بشكل مفرط، وأنهم على استعداد للدخول في تحد مع أيّ شخص يقوم بهذا العمل حتى لو كان من الآثاريين، ويبررون ذلك بأنهم من الموهوبين في فن النحت، أما العالم الأثري فهو قارئ جيد للتاريخ الفرعوني، يكتشف القديم من الحديث، لكن ليس فنانا.
أمام هذه الثقة، قال صبري عبدالعزيز رئيس قطاع الآثار المصرية الأسبق، إن “أي موهوب في النحت، سوف يخطئ، ولا يمكن أن ينحت تمثالا طبق الأصل، لكنه مشابه للأثر الحقيقي، وإذا كان شكل التمثال الحديث مطابقا للقديم في الأحرف والنقوش واللون، وهذا وارد بقوة، فإنه لن يتمكن من مطابقة نفس الوزن بين الاثنين”.
وأضاف لـ”العرب”، “أن أكثر النحاتين للتماثيل لا يدركون أن الألقاب الملكية عند الفراعنة كانت متعددة، أي لكل ملك مجموعة ألقاب، وصفات، كما أن ترتيب الأحرف والنقوش صعب مطابقتها بين الأصلي والمزيف، فضلا عن النصوص الفرعونية، فكل منها له دلالة بعينها، وبشكل احترافي يصعب تنفيذه بدقة”.
وأشار إلى أن “الأثري يفهم من الوهلة الأولى أن هذا قديم وذلك حديث، بمجرد رؤية التمثال، والنظر إلى تفاصيل وجهه وعضلاته وحركة يديه وقدميه، وحتما سوف يخطئ النحات ولو بشكل بسيط، لكن بعض الأجانب يتعرضون للنصب ويشترون الآثار المنحوتة على أنها فرعونية من شدة مطابقتها للأصلية”.
وأكد أن “النصب بالتماثيل عن طريق النحت أكثر من التنقيب عن الآثار، لأنها تبدو قريبة من الأصل، وهناك أشخاص لديهم أكثر من طريقة لإقناع الهواة والراغبين في شراء القطع الأثرية الأصلية بأن التمثال المنحوت حقيقي.. مثلا يمكن دفنه لفترة حتى يكون لونه قديما، ثم يبيعه على أنه فرعوني، وهذه كارثة تهدد سمعة الآثار المصرية”.
تصوير/ محمـد حسنين