فنانة فلسطينية تحول أعمالها إلى ذاكرة ملونة الأطياف لتضمن شاعرية البقاء

خرج الفنانون التشكيليون الفلسطينيون من حصار الواقع والشعارات والانطباعات ليؤسسوا مسارات مختلفة تماما في خامات الاشتغال والأفكار وطرق التناول، لكن ما يجمعها كلها على تنوعها الثري هو فكرة صناعة الرموز أو الأيقونات، وهو ما ترسخ في أكثر من تجربة مع أكثر من فنان. عروبة عمير من هؤلاء الباحثين عن صناعة رموزهم من خامة الواقع دون السقوط فيه.
تحمل الألفة في تعبيرها التشكيلي وتقدمها كجوانب مؤنسة وخفيفة، لكنها تحتمل القراءة في عمقها على أكثر من تفصيل وأوضح من رؤية، تبدو في تلك البساطة المتجذرة في انتماء الأرض، وهي خصوصية الحرفية التي أنضجتها التجربة شيئا فشيئا من خلال قطيعة لفن عشقته منذ الطفولة، وعادت إليه أكثر شغفا ونضجا، حملها نحوه التجريب وحاكتها فيه القصص والمخزون الحسي الذي يعبر مثل طيف ملون بينها وبين بيئتها ومحيطها، إلى أن تقبض عليه في أعمالها التشكيلية، إنها الفنانة الفلسطينية الصاعدة عروبة عمير.
تحدت الفنانة الظروف وطوعت اللون والأشكال حتى تستمر بالفن بعناد حقيقي وروح صامدة في خوض مسارات التعبير عن وطنها وحماية تفاصيلها من أسلاك الشوك وعتمة التهميش، محتفظة بملامح الشخوص ومندفعة في تحمل ماورائياتها البصرية التي تحمل قصصا وخيالات مشغولة بالأمل، ومكرسة رمزياتها الحسية وفق تفاصيل الموروث الفلسطيني الذي تقول عنه “الانتماء والنماء والحضور والبقاء”.
طغيان فكرة الحياة
لا تعتمد عمير على النقل النسخي والتجريب المعاش بل تبتكر لها خصوصيات بصرية تحمل على عاتقها صورة أيقونية مختلفة للمرأة الفلسطينية “الأنثى” التي لا تشبه سواها، ولا تريد إلا أن تحافظ على ذاتيتها بعيدا عن تعقيدات المألوف في القراءة البصرية التي تحملها وطنا، وتحمل فيها ترددات الحاضر والحضور والماضي والعبور من قحط الحروب إلى خصوبة الاستمرار.
تفك الفنانة من صورة المرأة كما تراها تفصيلات أخرى تشبه تجربتها لأنها تشكل منها رموزا أخرى إبداعية تجيد تحمل الخامة الملونة والسطوع أكثر بالأمل، لخدمة مفاهيمها بين الحضور الحاضر والتفصيل الحر الذي تعانق به روحها الأنثوية بعناد واثق وحنين أصيل لذاتها الريفية الحقيقية الحرة المشرقة من الأرض في تفعيل فلسطينيتها التي تشبه حضورها في مواسم الطبيعة احتفالا.
تحمل عروبة عمير الواقع من منظورها الحسي الذي يجمل تفصيلات الفراغ حسيا بشكل لا يتحمل التعقيد، هادئ حسي ملون ومتوازن، تقول “بعيدا عن الحروب أحمل لوحاتي إلى خصوصية حياتية مشرقة تعيد صياغة البلد بلا وجع بكل جمالياتها الصامدة “، وهو ما يجعلها تقع بين تفصيل الفراغ وتثبيت اللون حتى تتخطى التشويش المعلن في الواقع وتمسحه عنها ليكون أكثر إصرارا على الشروق في الملامح بالألوان بالزخرف بالأثواب بالأنوثة في طغيان فكرة الحياة.
التجربة الجمالية
تحمل التفاصيل العامة للبورتريهات الواقعية التي تعبر عنها عروبة عمير حسياتها المحدقة ضمنيا في واقع مرير الحصار تفصيلي التناول بين المجتمع والوطن تناقضات بقاء باقية على ما تريد أن تضيفه وهي تحمل العين المحدقة في اللون التي تدفع المتلقي إلى التساؤل عن مشهديات اللون، وهي تحيك غرز الأثواب من قصص ومن رؤى أو تعيد غزل صمود الحكمة في أرض محاصرة بالعشب النابت بين مفاصل الصخور وجعا وحربا.
تحاول أن تحكيه دون أن تحاكيه أو أن تترك لشخوصها فرصة الانغماس فيه حتى لا تغرقها في حزن الحيرة وخوف الترقب، وهو ما نجحت فيه وهي تختزل الحسيات العميقة في جماليات التقديم العام للوحاتها بترتيب أليف وببساطة تحمل خلفها أكثر من تساؤل ومن عمق، وهو ما تبدع فيه وتنضجه عبر تكويناتها التي تؤسس فيها لوحتها وتستحيل بعدها أكثر تركيزا وتطويرا ومعاصرة وإثباتا عنيدا لبصمتها البصرية والتشكيلية.
إن التجربة الجمالية التي تقدمها عروبة عمير تعكس بحثا متجذرا في تفاصيلها الفلسطينية تكتشف به رؤاها المتجددة وتعكس من خلاله بيئتها ومنظومتها التي تحمل القيم والعادات والموروث والوجدان العام والشخصي الذي تبث عبره جوهر الحياة وضرورة الحفاظ على الرمز القائم على الثقافة الوطنية التي تسرد الواقع وتوجهه أبعد نحو العالم بجماليات ناطقة بالحق في الحياة استحقاقا وبقاء.


