فنانة تجمع الهويات العربية عبر تراكيب تلاعب الفراغ والضوء لتبني هندسة خاصة

وعى الفنانون العرب المعاصرون بشكل كبير بأهمية العمل على الإرث الحضاري الخاص بطرق مختلفة، تفتحه على التأويل وتخلق على سطوحه مساحات التقاء وفي أعماقه مساحات لسحر الاكتشاف، ومن هنا تحرر الفنانون من الهويات الجاهزة والسطحية وانحازوا إلى المشترك الإنساني والإطلال عليه من نوافذ حضارية خاصة. من هؤلاء الفنانة دانا عورتاني التي بنت تجربة فنية فريدة من نوعها في تراكيبها ووعيها العميق بالفراغ والحضارة العربية وتراثها.
تشارك الفنانة السعودية دانا عورتاني في الدورة الستين لبينالي البندقية 2024 الذي يقام هذا العام تحت شعار “غرباء في كل مكان”، وهو ما أعلنت عنه مؤسسة بينالي الدرعية بالمملكة العربية السعودية التي تعمل على دعم الفنانين السعوديين والدوليين المقيمين في المملكة ومن بينهم التجربة اللافتة للفنانة دانا عورتاني.
ومن خلال “أولمبياد عالم الفن” الذي أقيم بالتنسيق بين بينالي الدرعية وبينالي البندقية بإشراف أدريانو بيدروا المدير الفني، اختيرت دانا عورتاني لتمثيل المملكة في البندقية من خلال مشروعها الإبداعي الذي تطوّر تجريبيا ونضج بصريا وتعمّق إبداعيا وإنسانيا ليحاكي الثقافة الإنسانية ويتفاعل مع الواقع البصري والثقافي في المنطقة.
مواجهة الطمس
طوّعت عورتاني مشروعها الفني مفهوميا ليتماهى مع عمق الحضارة العربية والإسلامية من خلال مشاركاتها المتميّزة وتفرّدها التعبيري وتطويعها الثقافي المتنوع، فهي سعودية – فلسطينية – أردنية – سورية، استطاعت أن تحملها كلّها البصري المرتكز على الهوية والانتماء والتراث العربي والإسلامي الأدبي والحروفي الذي طوّعته بشكل هندسي زخرفي فلسفي مشكّل على مفاهيمية البناء في الفراغ والتجريد المعاصر للإنشاء الجمالي بالوسائط المتعدّدة.
وتعتبر عورتاني أن هذه التجربة انعكاس حسّي وفني وتنوع ثقافي لانتمائها المتعدّد لهذه المنطقة التي تحمل السخاء والثراء الحضاري التاريخي والموروث الجمالي المنوّع، فالتراث الجماعي الذي تحمله قدّمته في تجريبها الفني الذي يسعى كهدف أساسي إلى الظهور والتطوّر والاندماج والمشاركة حتى تتسنّى له مواجهة الطمس والوقوف أمام محاولات القضاء على تاريخ التنوع الإنساني في المنطقة.
فمن هي دانا عورتاني وكيف تطوّرت تجربتها الفنية والبصرية؟
تراوغ العين
دانة عورتاني فنانة بصرية تشكيلية من مواليد 1987 تقيم بجدّة في المملكة العربية السعودية، نوّعت دراستها البحثية والأكاديمية في الفن من تركيا إلى بريطانيا والولايات المتحدة، شغفها بالهندسة الإسلامية والزخرف والحرف والقصيدة والمعنى راوغ امتلاء المعنى في ذاكرتها وحوّل مفاهيم الفراغ وصخب الصمت الحاضر في هندساتها وتصوّراتها إلى ترتيب أشكال وعناصر، احتضنتها الدوائر الفارغة والممتلئة بالأشكال وكأنها تحاكي الكون وتحتويه في الروح بصوفية وتماثل أجاد التكوين والحضور.
تعوّل الفنانة على العمق ولكنها لا تنفصل عن السطوح وطاقة المراحل البنائية التي تتوزّع مع الأبعاد والأحجام في الشكل ودرجة سطوع الضوء وتجاذب الظل مع العتمة وتعاقب الليل والنهار وحيوية العناصر السابحة في الكون وكأنها تراوغ العين، فبين التاريخ والحاضر تستشرف جماليات الإنسان. فللمعنى الهندسي حضور متكامل من السطح إلى العمق في أعمال عورتاني.
إن عناصر التميز في تجربتها تتمازج مع الفكرة المعاصرة في بناء الحركة والتحوّل معها في المواد والألوان والخامات والمسطحات لتثير المساحات وفراغاتها فأعمالها دقيقة الأشكال حادة التوافق متينة التوازن زخرفية البحث في المعالم والبناءات.
تحمل الفنانة الأطلال والعمار وتعيد تخفيف تلك التمازجات بالحفاظ على الرمز الكامن فيها وهو ما يجعل المتلقي يتعايش معها وكأنه يُبصر معها الحركة بوجدانه، وهي تتشكّل بالفراغ الزخرفي والتبادلي والفراغ العميق والابتكاري حسب ما تثيره مفاهيمها من استناد على الموروث والحضارة.
تعتبر لورا ميتزلر القيم الفني لمشروع ذلك الصمت الحاضر بيننا أن لدانا عورتاني أسلوبا متفرّدا له كثافة وتعمق ذهني قادر على تطويع الفكرة، والعمل المميّز الذي قدّمته في مفاهيمية الصمت والتكامل بينه وبين الفراغ كانت فيه “تستخدم نفس النموذج الهندسي سداسي الجوانب من المثلثات والسداسيات الزخرفية، ولكن بدلا من مواجهة المتلقي بها مباشرة كميزة معمارية تقدّمها كتواصل فني بصري تشكيلي، فإنها تقلب النمط وتحوّل المساحات السلبية إلى قطع منشور من زجاج مشكّل يدويا، فهي تتدلى من السقف وهو ما كان من الممكن أن يصبح في ظروف أخرى، المساحة الداخلية التي تمتد إلى الأسفل مع التقاط الضوء في مكان كان ليكون معتما”.
لم تترك دانة عورتاني للفراغ مجالا في هندساتها وخاماتها فقد تشتّتت في مفاهيمها وبحثها واشتغالها على التوظيف الحركي في الفضاء المليء بالصمت الذي انعزل للأداء في الصوت المرافق لأعمالها مثل تجربة مشروعها “ذلك الصمت الحاضر بيننا”.
ولم تستثن الفنانة تفاصيل الخامة ومحاكاتها للمفهوم مثل الخشب والقماش والسيراميك والفسيفساء والزجاج الملون والجلد وقد حرّكت كل تلك الخامات تكويناتها الفراغية وكأنها تمنح الفراغ مساحة للحضور ولكن حسب رغبتها المتحكّمة في المكان والزمان والحركة.
ثراء الفكرة والموروث
من يعرف تجربة دانة التشكيلية والتركيبية وتماثلات الأداء يدرك أن عينه وذهنه وروحه وحواسه تتعامل مع فنانة لا تهدأ ولا توقفها المسافة ولا حدود الشكل ولا الصمت في الفراغ ذلك الصمت الذي يفاجئ الحركة برقة أنثوية وهو يتداخل مع مفهوم الفراغ المتأني بفلسفته والذي يجمع الخامات وتركيبها والمستوحى من الأدبي الإسلامي والفكر الصوفي والتراث المادي والحرفي لفلسطين والسعودية وتفاصيل الصحراء وعلاقتها بالمدى والاتساع بالفضاء والاحتواء بالعمق والتجلي.
الفنانة تعوّل على العمق ولكنها لا تنفصل عن السطوح وطاقة المراحل البنائية التي تتوزع مع الأبعاد والأحجام
كل ما ذكرناه يجعل من مفهوم الفراغ في تجربة عورتاني رحلة عمق وامتلاء وتصورات حركية تسبح في ذلك العمق بدوران له هدوؤه النظري وحضوره الواقعي خاصة وأنها لا تتعامل مع الفراغ في المنجز الفني في اللوحة والقماش والورق مع التشكيل والهندسة أو الأداء والألوان، بل أيضا في الفضاء الذي تقع عليه حركة العمل وتحاور في ذاتها بقية الأعمال وكأنها تفرض نفوذها الروحاني الذي يجادل مزاج الفضاء ويحتل مساحاته.
تدمج عورتاني في توافقات الهندسة والتركيب والبناء والفراغ مفاهيم المعنى وخصوصيات النص وتفاعل الأحجام والأشكال ومراوغاتها للضوء بذلك الفراغ العميق مع الفراغ الضحل لتسيطر على السطح مع هندسة المساحة بكل أبعادها وهي تشكّلها ما يسمح بالاحتفاظ بالعمق رغم التركيز على السطح ما يمنح الحركة مفهومها التلقائي في طبيعية الأمكنة.
وتلك التلقائية هي التي فتحت منافذ التدرج التكويني في المساحات لتصل إلى ترويضه وخلق التجريب الحسي والفني المعاصر الذي خوّل لتجربتها أن تحمل تميّزا دوليا وتخصيصا بصريا له تكويناته التي خلقت لها أسلوبها التطويري بهويّتها وانتمائها وقدرتها على معالجة الأشكال والألوان وتوظيفها بدقة سرمدية ديناميكية حاكت الاندماج المدهش بين المكان والزمان.