فنانة إيرانية تحفر في الرموز بحثا عن أثر الانتماء الإنساني

فرناز شادرفان تخوض صدامات الجغرافيا وانفلاتات التاريخ المنسية
السبت 2024/07/20
فنانة تلتقط كل شيء يحيط بها من أفكار وخامات

الكثير من الفنانين الإيرانيين حين يلجأون إلى أماكن أخرى أكثر تحررا بعيدا عن بلدهم تتفجر لديهم طاقات كبيرة في التعبير عن الذاكرة والحضارة الإيرانية الثرية وتواريخ الشرق وخاصة منها تاريخ الحضارة الإسلامية. هكذا نجد الفنانة الإيرانية فارناز شادرفان المتشبعة بعوالمها الروحية الفريدة.

عندما تكلم زرادشت في عقل نيتشه كانت شاهنامة الفردوسي ملحمة صراعات تحمل قصصا وملاحم ورؤى مختلفة عن مفاهيم القوة وانبعاث الوجود في فلسفة البقاء، التي تؤسس لإيران الانتماء وهوية الثقافة التي تتفرد بها، وتحمل فضول البحث التي طبعت روح النيروز في كل تفاصيلها، في فن له العمق الباقي تأثيرا وانتصارا لتنوع الأثر الإنساني وتاريخ الفكرة الأصيلة في رمزية “الآشا” الإنسان.

إنها الرحلة إلى إيران فنا، تحمل منافذ المتعة وذاكرة آذار نفيسي وأشيائها التي كانت ساكتة عنها وعبّرت عنها شيرين نشأت وعبرت بها إلى العالم حاملة مخزونها الفني وزخرفاتها وتأصل العمارة وخط النستعليق والمنمنات وغموض السحر الخالد لهوية المنطلقين من إيران إلى العالم ومنهم فرناز شادرفان الفنانة التشكيلية التي تفردت في أسلوبها وأبدعت في حفر اسمها بعناد موقفها وتشبثها بهويتها.

وولدت فارناز شادرفان في طهران وبدأت مشوارها الجمالي مع المخطوط المقدس والتصوير، سافرت إلى الولايات المتحدة في سنة 1979 ولكن تم ترحيلها مجددا إلى إيران سنة 1981 لتصر على العودة للاستقرار في الولايات المتحدة وتواصل دراستها الأكاديمية للفنون هناك.

الوميض الإبداعي

لأن الفن تدوين لأحقية الوجود تبتعد شادرفان عن فكرة الجسد في الأداء وتقترب أكثر من الهياكل العظمية
لأن الفن تدوين لأحقية الوجود تبتعد شادرفان عن فكرة الجسد في الأداء وتقترب أكثر من الهياكل العظمية

في عام 1986 التحقت بجامعة يوتا للفنون وتخرجت سنة 1990 كما درست طب الأسنان بالتوازي وحصلت على تدريب مكثف في الطباعة والنحت في معهد سان فرانسيسكو للفنون.

حملت الفنانة مخزونها من الجماليات الفنية الإيرانية في الأدب والشعر والرسم والقصص والملاحم التي أعادت بها تفصيلات الشاهنامة وقصص الملوك والأباطرة وانطلقت بها نحو عالم مشحون من العلامات والتصورات والأفكار والمفاهيم فقد دمجتها مع واقعها المتغير بأساليبها الحديثة وتقنياتها وخاماتها.

لأن الفن تدوين لأحقية الوجود تبتعد شادرفان عن فكرة الجسد في الأداء وتقترب أكثر من الهياكل العظمية في حفر الأشعة وهنا، يقف المتلقي العادي أمام أعمال التشكيلية الإيرانية فارناز شادرفان متسائلا ومستغربا ومحتارا من أين ينطلق في طرحها إذ يستعيد معها تفاصيل البناء الأول فتحمله بذكائها حيث السؤال استنفار طبيعي لواقع بدأ ينخر ارتساماته من خلال صدامات الجغرافيا وانفلاتات التاريخ المنسية لتمرغ ذاكرته ومعارفه في تفاصيل النقوش والحفريات والأحجار المتعثرة ببطولات الشرق وانتصاراته، فهي لم تشكل خاماتها بالصدفة بل ابتكرتها بدقة وكأنها تحكيها مجددا وتعيد حفرها لتجيب المتلقي بتفاصيل الحكمة.

عن بداية شغفها بالفن تقول فارناز “كنت أتجول في شوارع طهران التقيت الطفلين سعيد وأراش يبيعان الكتب في يوم ممطر وكان من بين تلك المخطوطات قصائد لحافظ الشيرازي حيث يكون الاقتناء في شكل لعبة بأن تغمض عينيك لتختار، فكانت القصيدة التي حملتها هي سبب ثروتي الحسية والفكرية والفنية ومنذ ذلك الحين اخترت أيضا طريقتي في التعبير تلك التي تدرك الغيب المرئي في تفاصيل التوافق الذهني والروحي والحسي”.

تعتبر تجربة التشكيلية الإيرانية فارناز شادرفان متفردة حيث تقوم على التقاط كل شيء يحيط بها من أفكار وخامات وألوان ومفاهيم تحرك ذاكرتها بالفكرة فتطوع أسلوبها بالخامة تجمعها إيمانا منها أن كل الأشياء التي تحيطها مهما كانت بسيطة أو معقدة تربط بينها قصة تتحمل هي مسؤولية سردها تشكيليا.

 تطرحها في أسلوبها الحركي في الرسم والتركيب، مع ابتكارات تعتمد على النقوش والزخرف الذي يميز الثقافة الإسلامية والإيرانية، تنفذها على عدة خامات وعناصر غير متوقعة مثل أحواض الاستحمام إذ تنفذ عليها تصورات فنية شبيهة بتلك الملاحم التي ترافق الكتب والأساطير القديمة وتصوراتها المتنوعة حيث ترسمها لتتشابه وتتواصل في ما بينها وكأنها تتكامل في السردية البصرية للرؤى التنفيذية للفكرة والمفهوم بدلالاته المختلفة والمتنوعة، فتخلق قصة وفانتازيا غرائبية ذات تصورات سريالية تنتشلها من الواقع وتوافق بينها وبين الخيال والتذكر، من خلال العناصر الطبيعية كالتراب والماء والحجارة.

تثير فارناز أيضا دهشة المتلقي بتعاملها مع فكرة الإنسانية التي تتجاوز منطق الاختلاف والتمييز فتتجاوز فكرة الحضور بالغياب وفكرة ميتافيزيقا الوجود إلى المادة في مجسم الهيكل العظمي، حيث تعتمد في لوحاتها على توظيف صور الأشعة وتحويلها إلى لوحات تركز على النقش الواضح وكأنه وشم من الأرض، محكي ومرئي تظهر فيه علامات الضوء متوافقة مع الحضور في المعنى ومجازه.

 تستند الفنانة على الرموز الدينية والعقائدية الراسخة في ذاكرتها لتخدم أفكارها وروحانياتها التعبيرية التي تتمرد بها على الواقع والعقليات الرجعية التي تجمد النشاط الفردي، وتضع الإنسان في سجن الغيبي لذلك فكرة التجميد والتثبيت والفراغ والتلاشي تحضر عندها وتتجاوزها بالخيال وبالابتكار حين تستفز ذاكرتها وتفتح منافذ لمعايشة الأمكنة.

تجاوز التصور المعتاد

فرناز شادرفان تخلق قصة وفانتازيا غرائبية ذات تصورات سريالية تنتشلها من الواقع وتوافق بينها وبين الخيال والتذكر
فرناز شادرفان تخلق قصة وفانتازيا غرائبية ذات تصورات سريالية تنتشلها من الواقع وتوافق بينها وبين الخيال والتذكر

يحمل الفراغ المجرد في أعمال فارناز لغة الأرض وتعابير الوجود في بحث نفسي متداخل عن عمق التصور عن سر الحياة عن تلك الاختلافات التي تميز البشر عن البحث في التكوين وتفاصيل الاستمرار في الفكرة، فكأنها تعيد تجسيد تلك القصيدة التي أدهشتها بأكثر من فكرة وخيال وصور وأكثر من خامة، وكأنها تخاطب الغيب بلسان التشكيل وكأنها تنساب بين خاماتها فتتداخل وتتساءل وتندمج.

في نقوشها على العظام تجمع التفصيل على الثبات وتخلّد الإنسان في تشكلات العلامة وتماثلها والتحامها واندماجها تثبيت خارق للإنسانية وتوحيد للذات في عالمها، تصوف يتداخل ويتفاعل ويتوافق بين كل تكويناتها المتماسكة في فكرة العظام التي توحي بالموت ولكنها تثبتها على منطق الحياة وإثبات الوجود قبل الفناء.

تعتمد فرناز أيضا فن التجليد حيث تجمع المخطوطات والأوراق والصور القديمة تؤثث فيها زخرفاتها وألوانها التي تثير الهوية الأولى والانتماء المتنوع في تطويعها للمفهوم المتفاعل بين حضورها والعالم، بين لغة فنها ولغة انتمائها لتوصل فكرة أكبر تبنيها على التذكر.

إن ما تحمله أعمال فارناز يتجاوز التصور المعتاد لفكرة الفن الإيراني التي تحمل الهوية الثابتة على فن المنمنمات والخط والزخرف لأنها تحاكي به الفكرة الواقعية المعاصرة ولا تنفصل عنه بل تبدأ منه كتوليفات موثقة للذاكرة وتتجاوزه لتحاكي الإنسانية وتنعش أفكارها المعتقة.

12