فليح السامرائي: المثقف والمبدع العُمانيان في طليعة حركة التنوير الخليجي والعربي

الانفتاح والاستقرار في سلطنة عمان ينعكسان على الأدب والثقافة والفنون.
الخميس 2025/01/30
الثقافة العمانية تحقق حضورا لافتا

تشهد سلطنة عمان نهضة ثقافية كبرى في شتى المجالات لعل أبرزها الأدب والمسرح والفنون، وهو ما يؤكده الحضور الثقافي العماني البارز عربيا ودوليا. انطلاقا من ذلك تحاور"العرب" أستاذ الأدب الحديث ونقده وعضو هيئة التدريس بقسم اللُغة العربية في جامعة نزوى الدكتور فليح مضحي السامرائي.

تحل الثقافة العمانية على كافة مستوياتها الفكرية والإبداعية والفنية ضيف شرف على معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56، والذي يقام تحت شعار “اقرأ… في البدء كان الكلمة”، حيث تشارك ببرامج تسلط الضوء على تجليات المشهد الشعري والروائي والقصصي والمسرحي والفكري والنقدي، وهو الأمر الذي يفتح نافذة كبيرة للجمهور المصري والعربي والأجنبي للتعرف على جماليات الثقافة العمانية وعمقها الحضاري والإنساني، وموقعها الأصيل والراسخ داخل الثقافة العربية.

في هذا الحوار مع “العرب” يتحدث الدكتور فليح مضحي السامرائي عن المشهد الثقافي العماني باعتباره أحد المتابعين البارزين له على اختلاف تجلياته الإبداعية والثقافية، والذي صدر له أخيرا كتاب “فضاءات من الأدب العُمانيّ.. أبحاث وقراءات ومراجعات”.

الخصوصية الأدبية

البداية كانت من المشهد الشعري في عمان في مختلف تشكيلات قصائده الكلاسيكية العمودية والتفعيلة والنثر، حيث يؤكد السامرائي أن المشهد الشعري في سلطنة عُمان بشكل عام لا يختلف عن المشهد الشعري العربي في الخليج أو في سائر أرجاء الوطن العربي، مع خصوصية خاصة لها علاقة بالمكان والمرجعيات وتفاصيل أخرى تجعل الشعرية العُمانية الحديثة في فضاء مغاير بعض الشيء، إذ إن القصيدة الكلاسيكية العمودية لها حظوة تاريخية لدى شعراء يسعون إلى المزيد من تكريس هذا الشكل الشعري، ولاسيما في المحافل والمناسبات والدعوات المستمرة للحفاظ على الموروث الشعري وإدامته وتعزيز صورته التقليدية.

ويذكر أنه في مجال قصيدة التفعيلة كانت للشعر العُماني إسهامات كبيرة أثّرت في الأجيال الجديدة؛ من جيل الثمانينات وما لحقه من أجيال شبابية أخرى تفاعلت على نحو كبير مع الثقافات الجديدة عن طريق التأثير والتأثر، واكتسبت طاقات شعرية حداثية يمكن أن تندرج في إطار الفضاء العام لشعر الحداثة. أما قصيدة النثر فهي الشكل الشعري الأكثر استجابة لتطورات العصر الحديث في مختلف المجالات، من خلال ما شهدته الساحة الشعرية العُمانية من إسهامات نوعية مهمة لدى أسماء شعرية عُمانية كثيرة.

السامرائي يؤكد أن الحراك النقدي العام في السلطنة يبشّر بخير كبير
السامرائي يؤكد أن الحراك النقدي العام في السلطنة يبشّر بخير كبير

ويتابع “يمكن القول إن بعض الأسماء أسهم في إضافات نوعية جديدة للشعرية العربية الحديثة في هذا المجال، وثمة أسماء شعرية كثيرة في هذا السياق مازالت بحاجة إلى أن تكون ميدانا لدراسات نقدية معمّقة لكي توضع في سياقها الصحيح الذي تستحقه بجدارة، فثمة خصوصيات لهذه التجربة لا بدّ من الانتباه إليها. وأرى أنه في المشهد الشعري الحاضر والمستقبل سيكون لقصيدة النثر الحضور الأكبر، كون هذا الجنس الأدبي بدأت تلمع فيه أسماء شعرية جديدة لها حضورها وحظوتها وقبولها في المشهد الثقافي العربي بشكل عام والعُماني بشكل خاص.”

أما المشهد الروائي في السلطنة وأبرز الملامح والخصوصيات التي تجعل منه مشهدا خاصا ومتفردا، فيقول عنه “إن المشهد الروائي في سلطنة عُمان هو المشهد الأكثر حيوية ونشاطاً وإنجازا على أكثر من صعيد، إذ إنّ خصب التنوع الجغرافي والإنساني والطبيعي والتاريخي الهائل في الفضاء الحضاري العُماني من شأنه أن يمنح الروائي العُماني مساحة إبداعية واسعة قد لا تتاح لروائي عربي آخر من هذه الناحية، وهناك أجيال من كتّاب الرواية في عُمان تعاقبوا على تأسيس هذا المشهد؛ ولكل جيل خصوصيته وصولاً إلى العصر الحديث إذ قفزت الرواية العُمانية قفزات هائلة، وضعتها في مقدمة الرواية العربية.”

ويضيف “لو انتبهنا على الأقلّ إلى رواية جوخة الحارثي مثلا وقد فازت بجائزة عالمية كمعيار نقدي أساسي هي جائزة مان بوكر العالمية، عن روايتها الموسومة بـ’سيدات القمر’، كأول رواية عربية تفوز بهذه الجائزة، فضلا عن فوز رواية ‘تغريبة القافر’ لزهران القاسمي بجائزة البوكر العربية، وغير ذلك من إنجازات الرواية العُمانية، سندرك حتماً أن هذه الرواية لها خصوصية وتفرد نوعي خاص. إذ تمكّن الروائي العُماني من استثمار الكثير من الإمكانات الخصبة الغزيرة في البيئة العُمانية والموروث الشعبي العُماني، وبما أن هذا الموروث الشعبي العُماني هو مصدر مهم من مصادر الرؤية السردية العُمانية فقد جاءت هذه الخصوصية من عناية الروائي العُماني بتحويل هذا الموروث الشعبي بكل أشكاله إلى مادة سردية حية، وغذّى نصوصه الروائية بها على نحو جعل الرواية العُمانية تكتسب كل هذا الحضور وهذه الأهمية.”

المشهد الإبداعي العُماني في السنوات الأخيرة حقق تطورا لافتا سواء في المجال الفكري أو الأكاديمي أو الثقافي والإبداعي

ويشيد السامرائي بالمبدعة العمانية وتحقيقها حضورا قويا على مستوى الرواية، ويضيف أن ما حققته المبدعة العُمانية من حضور قوي في المشهد الروائي العربي لا يختلف كثيرا عمّا حققه المبدع الرجل في السياق العام، لكن الفضاء السردي العربي على نحو عام فتح المجال أمام المرأة كي تأخذ نصيبها من الحضور الإبداعي على نحو عام، فالقضية المتعلقة بحضور المرأة المبدعة على مستوى الرواية وغيرها هي قضية عربية أكثر من كونها قضية عُمانية محضة، لكن التشجيع الذي تحظى به الروائية العُمانية، وزخم التنوع الكبير في البيئة العُمانية من خلال مجاورة الصحراء للبحر، وظهور أسماء نسائية مهمة حققت حضورا عربيا وعالميا في هذا المجال، وغيرها من الأسباب الذاتية والموضوعية، أتاحت فرصا كبيرة جعلت المرأة العُمانية المبدعة تتصدر المشهد.

غير أن الحظوة اتي نالتها الروائيات لم تحصل على حساب الرجل كما يعتقد البعض، فالروائي (الرجل) في المشهد الروائي العُماني له حضور جريء وأساسي، ولو نستعرض الأسماء الروائية العُمانية المهمة على صعيد إنجاز الرجل سنجد أن التجربة الروائية العُمانية، ولاسيما في العقدين الأخيرين ضمن الألفية الثالثة، قد تفوقت كثيرا على مستوى الرجال والنساء معاً، وهذه ربما ميزة عُمانية خاصة على مستوى المشهد الروائي العربي تعبيرا عما تحصل عليه المرأة العُمانية من حرية كبيرة في مختلف مجالات الحياة.

ويلفت السامرائي إلى أهمية موقع القصة القصيرة في المشهد السردي العماني عامة، ويوضح “ربما تكون القصة القصيرة من الفنون الإبداعية المظلومة عُمانيا وعربيا بحكم الاهتمام الاستثنائي الكبير بفن الرواية، هذا الفن الذي استأثر بعناية واهتمام المبدعين والقرّاء على نحو عام، فقد تسيّدت الرواية المشهد السردي العربي والعُماني على نحو ضيّق المساحة على ظهور فن القصة القصيرة داخل المشهد، لكنه مع كل ذلك فإن التجربة القصصية العُمانية لها خصوصية أيضاً من خلال بروز أسماء قاصين وقاصات عُمانيات في السنوات الأخيرة، يمكن مقاربة تجاربهم بصورة عامة على أنها تجارب مهمة ونوعية.”

ويضيف “إن القصة القصيرة، وما تبعها من شكل آخر يدعى ‘القصة القصيرة جداً’، شكّلت قيمة إبداعية خلاقة لا يمكن إهمالها؛ فعلى الرغم من أن العصر العربي الإبداعي الحديث هو عصر الرواية كما يتفق على ذلك معظم الدارسين والنقاد في هذا المجال، لكنّ القصة القصيرة هي المرجع السردي وهي أم السرد الحقيقية والشرعية، وهي ربما تحتاج إلى وعي سردي كبير وتركيز لغوي عالٍ لتحقيق النجاح في كتابة قصة قصيرة متفوقة، وهذا الأمر لا يتحلى به سوى قلة نادرة من كتاب السرد، ومع ذلك كله فإن التجربة القصصية العُمانية ولاسيما القصة القصيرة جداً بحاجة إلى مراجعة نقدية وأكاديمية واسعة، تعيد الاعتبار لهذا الفن الأصيل وتضع التجربة القصصية العُمانية الحديثة في مسارها الصحيح.”

المثقف العماني

خصب التنوع الجغرافي والإنساني والطبيعي والتاريخي الهائل في الفضاء الحضاري العُماني يمنح الأدباء العُمانيين مساحة خاصة

يؤكد السامرائي أن النشاط المسرحي العُماني ربما من أنشط المسارح العربية على مستوى الحضور وعلى مستوى الابتكار، وإذا راجعنا مهرجانات المسرح العربي في هذه الدورة وحتى في الدورات السابقة سنرى أن صوت المسرح العُماني بات عاليا وواضحا ومؤثرا، وهذا يعود إلى استقرار الفضاء الإنساني العُماني لأن عالم المسرح هو عالم استقرار وهدوء وتأمل.

ويواصل “على هذا النحو فإننا نأمل الكثير من فاعلية الحركة المسرحية العُمانية، لما تلقاه من تشجيع من الكثير من المؤسسات المعنيّة في هذا المجال، فضلا عن وجود أسماء عُمانية وعربية مهمة في مجال الإبداع المسرحي، على صعيد التأليف والإخراج والتمثيل وكل جوانب العملية الإبداعية المسرحية، ولا شك في أن وجود هذه الأرضية الصالحة للعمل المسرحي من شأنه أن يشجع على مواصلة النشاط المسرحي بصورة أكثر حيوية، ونتوقع الكثير من هذه الحركة محليا وعربيا على كل المستويات.”

ويرى أن الحركة النقدية في عُمان تتميز بوجود ثلة من النقاد الأكاديميين في الجامعات العُمانية، وبما أنّ الجامعات في الكثير من تجارب العالم النقدية هي الحاضنة الأساسية لظهور النظريات النقدية الكبرى، فإنّ سلامة الحركة النقدية لا بدّ أن تأتي عن طريق الجامعات بالدرجة الأولى، لذا نجد أن أغلب الجامعات العُمانية شرعت في إقامة مؤتمرات نقدية نوعية وورش عمل خاصة في المجال النقدي، فضلا عن ندوات ومحاضرات تتعلّق بالشأن النقدي على نحو خاص، حققت قفزات مهمة في توجيه الانتباه نحو هذا الفضاء المعرفي شديد الأهمية والخطورة، وذلك لأن المستقبل الحضاري لأية أمة يكمن في قوة المشهد النقدي المعزز بأسماء نقدية مهمة قادرة على صناعة هذا المشهد بطاقات معرفية خلاقة.

المشهد الروائي في سلطنة عُمان هو المشهد الأكثر حيوية ونشاطاً وإنجازا على أكثر من صعيد

ويستدرك “لكن قضية القدرة على متابعة تجليات الإبداع في مختلف الأجناس الأدبية تمثل إشكالية مهمة على الصعيد النظري والرؤيوي، فالنشاط النقدي ينبغي أن يقوم على أساس مشاريع نقدية كبرى تتعلق بالنظريات والمناهج والمفاهيم والمصطلحات، وهذا الأمر يأتي في المقدمة كي تتأسس أرضية نقدية صالحة ذات طبيعة مؤسساتية كبرى في المقام الأول، تكون مؤهلة على نحو علمي رصين لوضع المشهد الإبداعي تحت الضوء النقدي بصورة عالية الانضباط والحراك الصحيح والمناسب والضروري، أما مسألة المتابعة النقدية ذات الطابع الصحفي العابر فلا يمكن لها أن تحصل على نتائج كبيرة.”

ويتابع “ليس المهم الإحاطة النقدية بكل ما يُنتَج من أجناس أدبية في مختلف المجالات، بل الأهم هو صناعة فضاء نقدي أكاديمي ومؤسساتي يحيط بكل العملية الإبداعية ويرسم إستراتيجية نقدية كبرى للعمل على بناء المشهد النقدي المتكامل والحيوي والأصيل، ودراسة الحركة الإبداعية الأدبية بكل أجناسها وأنواعها الأدبية وفق رؤية شاملة تخضع لأسس وقواعد وقوانين عابرة للارتجال والعفوية والنشاط النقدي الفردي المجرد.”

ويؤكد السامرائي أن الحراك النقدي العام في السلطنة يبشّر بخير كبير، فالسلطنة الآن من بلدان الخليج الصاعدة في كل مجالات الحياة، وقمة انفتاح عصري متوازن في كل مجالات الحياة يجعل الإنسان أكثر حرية وتفتّحاً على أبواب المستقبل، ويحظى هذا الحراك باهتمام حكومي منقطع النظير على المستويات كافة، ويسهم إسهاماً فاعلاً في فتح المسارات الحضارية الكبرى أمام أجيال المبدعين، على نحو يجعل المبدع العُماني في أعلى درجات الطمـأنينة الإبداعية في سياق العناية بنموذجه الإبداعي والسعي إلى تطويره وإدامته، ودعمه بكل ما أمكن لتحقيق أعلى حالة تداول وانتشار على معظم الساحة الثقافية العربية.

ويضيف أن “المشهد الإبداعي العُماني في السنوات الأخيرة حقق تطورا لافتا في المجال الفكري والأكاديمي والثقافي والإبداعي، دفع الكثير من المبدعين العرب إلى الإشادة به والثناء عليه، وصار المثقف العُماني والمبدع العُماني في طليعة حركة التنوير الخليجي والعربي على مستوى الفكر والإبداع، وذلك لأن البيئة العُمانية من مختلف وجوهها هي بيئة جاذبة وثرية وغنية وخصبة، لا تحتاج سوى إلى استثمار واستغلال ما لديها من إمكانات هائلة تجعل منها بلدا طليعيا، وبوسعه أن يكون قائداً في الكثير من المجالات التي قد لا تتوفر إمكاناتها الغزيرة في مكان آخر.”

13