فلاسفة كثيرون قدموا نظرة خاطئة للموسيقى

كان لكتابات الفلاسفة تأثير كبير في التطور التاريخي للموسيقى في الحضارة الغربية، وإن كانوا في عمومهم كتابا نظريين ليس لديهم من الخبرة الفنية ما يتيح لهم تقويم التركيب الفعلي للموسيقى، لكن كانت لديهم مع ذلك آراء كثيرة في الموسيقى، وفي تأثير الفن الموسيقي في سلوك الإنسان.
تشهد الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية للإنسان الغربي بوضوح بمدى تأثير نظريات الفلاسفة في مجرى الموسيقى في الحضارة الغربية.
في ضوء هذه الرؤية يأتي كتاب “الفيلسوف وفن الموسيقى” للفيلسوف والموسيقي الأميركي جوليوس بورتنوي، والذي ترجمه المفكر فؤاد زكريا وراجعه حسين فوزي وصدرت طبعته الأولى عام 1974 وطبعته الثانية سنة 2023 عن مؤسسة هنداوي.
الموسيقى والفلاسفة
يشكل الكتاب محاولة لدراسة ميدان لم يطرق من قبل على نطاق واسع، وهو العلاقة بين آراء الفلاسفة وتطور الموسيقى على مر العصور انطلاقا من آباء الكنيسة وفلاسفة العصور الوسطى في روما الوثنية، والفلاسفة اليونانيين، وفلاسفة العصور الوسطى المسيحيين، مرورا بأفلاطون الذي أرسى الرؤية الفلسفية للموسيقى وانتهاء بفلاسفة العصر الحالي؛ ذلك لأن من المألوف، وفقا لزكريا، أن نجد دراسات تكتب عن فلسفة الموسيقى، أو عن آراء فلاسفة معينين أو مدارس فلسفية خاصة في الموسيقى، أما تأثير الفلسفة ذاتها في مجرى الموسيقى، فهو موضوع لم يكتب فيه الكثير من قبل.
◙ جذور الموسيقى متغلغلة في تربة الواقع الفعلي؛ فهي نتاج للتجربة البشرية، حتى حين تعلو على التجربة؛ إذ تبلور المشاعر في أنغام حسية، وإيقاعات متحركة تنقلنا إلى قمم شفافة من النشوة الوقتية
ولعل السبب الأكبر في ندرة ما كتب عن هذا الموضوع هو الاعتقاد الذي يسود معظم الأذهان، بأن تطور الموسيقى سار مستقلا عن أفكار الفلاسفة، ولم يتأثر بها على الإطلاق، وإن كانت هناك نقاط التقاء معينة بين المجالين تتمثل في تلك الكتابات التي كان الفلاسفة يسجلون فيها أفكارهم عن الموسيقى من آن لآخر، أو في تلك التأملات شبه الفلسفية التي قد يعبر بها الموسيقار عن تجاربه في الحياة والفن. ومع ذلك فمن المؤكد أن القارئ يخرج بعد قراءة هذا الكتاب بانطباع مخالف تماما، هو أن تأثير الفلسفة في الموسيقى كان أقوى مما نتصوره للوهلة الأولى، وأن هناك مصيرا مشتركا يجمع بين هذين المجالين للنشاط الروحي في الإنسان، وأن اللقاء بين الفيلسوف والموسيقى قد استمر طوال التاريخ، وما يزال قائما إلى اليوم.
يرى بورتنوي أن الفيلسوف القديم كان يرى في الموسيقى أكثر من مجرد تعبير عن المشاعر، فلم يكن يقنع بالنظر إليها على أنها وسيلة من وسائل الاتصال الفني ينقل بها الموسيقار الشاعر في العالم القديم أفكاره وأحواله الانفعالية إلى الآخرين. وإنما حاول الفيلسوف اليوناني أن يعرف إن كان أصل الموسيقى يرجع إلى “مصدر علوي” معين يعلو على أفهام البشر. وكان يؤمن بأنه توصل إلى معان أخلاقية في الألحان، وإلى دلالات أخلاقية في الإيقاعات. وعندما لاحظ تأثير الموسيقى في سلوك الإنسان، وصل إلى أن الموسيقى قد تهذب الطبع، وقد تزيده انحطاطا.
ولما لم يكن لديه من العتاد الذهني ما يتيح له فهم الموسيقى الفعلية ذاتها، فقد نسب إلى أصل الموسيقى وقواها خصائص صوفية. ونظرا إلى انعدام ثقته في الانفعالات، وإلى تمجيده للعقل، فقد كان يخشى من تلك الآثار التي يمكن أن تجلبها الإيقاعات المتوثبة والأنغام المفرطة في حسيتها على الجسم والذهن. وقد استنتج أن الإيقاع واللحن إنما هما محاكاة لحركات الأجرام السماوية التي تصدر عنها خلال حركتها في السماوات موسيقى إلهية لا تدركها آذان البشر. وعلى أساس هذا الافتراض، انتهى إلى أن فن الموسيقى مقلد لقوانين الطبيعة، ولما كان النظام الأخلاقي ساريا على الكون، فإن للموسيقى قيمة أخلاقية.
ويلفت الفيلسوف والموسيقي الأميركي إلى أن كتابه لا يزعم لنفسه أنه تاريخ للموسيقى، أو أنه عرض عام للفلسفة، وهو قبل هذا كله لا يدعي على الإطلاق أنه دراسة فنية لعلم الموسيقى. وإنما الغرض منه هو تقديم عرض تاريخي لأصول التفكير الجمالي في الموسيقى، وتطوره في الحضارة الغربية. ومن رأيه أن جذور التفكير الجمالي في الموسيقى الغربية ترجع إلى أفلاطون، وأن كتابات هذا الفيلسوف اليوناني لا يزال لها تأثيرها الواضح في الموسيقى حتى يومنا هذا. وربما قيل ردا على ذلك، إنه لا جدوى من إيضاح أوجه الشبه بين المفاهيم الموسيقية لدى القدماء والمحدثين لسبب بسيط هو أن موسيقى القدماء لها صدى انفعالي يختلف عن الموسيقى الشديدة التعقيد عند المحدثين، ولكن الواقع أنه ليس أبعد عن الصواب من الاعتقاد بأن الموسيقى البسيطة التي كان الشاعر اليوناني يجمل بها شعره بالغناء، لم يكن لها في نفوس سامعيه نفس التأثير الانفعالي الذي تحدثه فينا موسيقانا الحديثة الشديدة التعقيد.
ويوضح بورتنوي أن المبادئ الجمالية التي نقدر على أساسها موسيقانا مبنية على كتابات الفلاسفة اليونانيين. ومهما قيل عن هؤلاء الفلاسفة القدماء من أنهم أعاقوا تطور الموسيقى بتأملاتهم الجامحة، فإنهم مع ذلك قدموا إلينا معاييرا للقيم نستطيع بها أن نصوغ حكما عن الموسيقى، والأهم من ذلك أن الفيلسوف اليوناني كان مهتما بمشكلات تتعلق بموسيقى عصره، تماثل تماما تلك المشكلات التي نهتم بها في حضارتنا الحالية.
عصور الموسيقى
يشير بورتنوي إلى أن الموسيقي وقف صامدا في وجه السلطة على مر عصور التاريخ، وإن اضطر في الماضي، ولا يزال مضطرا في الحاضر، إلى الرجوع عن موقفه الجمالي إلى حد ما، حتى يضمن سلامته إزاء الأوامر الغاشمة لسلطة دينية، أو نزوات سيد يرعاه، أو قرارات لجنة سياسية. وهكذا كان الموسيقار عبدا للأخلاق والدين، وصنيعة لسيد غني، وأداة لنشر أيديولوجيا سياسية، ولكنه خلال هذا كله لم يكن في أي وقت أداة طيعة تماما في يد أي واحد من هؤلاء، وإنما كانت طبيعته ذاتها تجعله منصرفا تماما إلى إشباع حاجته الشديدة إلى التعبير عن ذاته، ومستغرقا كل الاستغراق في الرغبة في إطلاق مشاعره من عقالها.
وقد ظل هذا الصراع بين الفكر والشعور، بين العقل والحكم الجمالي، بين الفيلسوف والموسيقار، صراعا دائما طوال التاريخ. وإنه لمن الممكن وضع نظام من القيم لفلسفة جمالية للموسيقى، لا تكون مرتكزة على تعاليم القدماء، وإنما على قيم إنسانية النزعة.
مثل هذا النظام أو النسق من القيم الموسيقية يمكن تحقيقه باستبعاد الأساطير البالية التي طغت على الخلق والتذوق الموسيقي، وبالاسترشاد بالمبدأ القائل إن الموسيقى هي في أساسها تعبير عن المشاعر في شكل فني، قوام أسلوبه هو الإيقاع والنغم؛ فالموسيقى تنبعث من المشاعر، وتأثيرها إنما ينصب على المشاعر، وهي ناشئة من العاطفة لكي تحرك العواطف.
ويشدد على أن جذور الموسيقى متغلغلة في تربة الواقع الفعلي؛ فهي نتاج للتجربة البشرية، حتى حين تعلو على التجربة؛ إذ تبلور المشاعر في أنغام حسية، وإيقاعات متحركة تنقلنا إلى قمم شفافة من النشوة الوقتية. وللموسيقى القدرة على تخليصنا من القلق والهموم، وهي وسيلة للاتصال تفوق في فعاليتها وقدرتها على الإثارة الانفعالية كل صور التعبير الأخرى التي استحدثها الإنسان لكي ينقل بها مشاعره وأفكاره إلى الآخرين. والموسيقى تجسد آمالنا وأحلامنا، وحزننا ويأسنا. وليس في وسعنا أن نستخلص من الموسيقى إلا ما أضفيناه عليها بالحساسية والفهم.
ويتابع بورتنوي “مهما كان الفلاسفة قد كتبوا عن الموسيقى، فقد كان ما قالوه عنها أقل مما قالوه عن أي فن من الفنون الأخرى؛ لسبب بسيط هو أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى فينا لا يخضع للمنطق بنفس السهولة التي تخضع بها له الفنون المرتكزة على مدركات عقلية، كالشعر أو الدراما. على أن الفيلسوف قد جعل للموسيقى درجة منخفضة في سلم الفنون لهذا السبب ذاته، وأعني به أن الموسيقى تتعلق قبل كل شيء بالمشاعر لا بالعقل، وبالانفعال لا بالفهم، وبالخيال لا بالتصورات الذهنية”.
◙ الفيلسوف القديم كان يرى في الموسيقى أكثر من مجرد تعبير عن المشاعر، فلم يكن يقنع بالنظر إليها على أنها وسيلة من وسائل الاتصال الفني ينقل بها الموسيقار الشاعر في العالم القديم أفكاره وأحواله إلى الآخرين
ويبين أن الفلاسفة قد دأبوا طوال العصور، باستثناء القليل منهم، على الاعتقاد بأن الموسيقى بلا كلمات أقل قيمة من الموسيقى بالكلمات؛ فموسيقى الآلات الخالصة غامضة تفتقر إلى التحدد، وهي تجسيد للانفعال في نغم وإيقاع يثير فينا مشاعر أحس بها الموسيقي إلى حد ما عندما ألف موسيقاه. غير أن الفيلسوف لا يوقن بأن المشاعر يمكن أن تكون أهلا للثقة، وإنما يؤكد أن الكلمات التي تضاف إلى الموسيقى تضفي على المشاعر طابعا يمكن إدراكه ذهنيا، وتجعل اللامتحدد محددا واضح المعالم، وتنقل فن الموسيقى من المستوى الأدنى للانفعال إلى المستوى الرفيع للعقل.
ويقول “إن تلك الصيحة التي يرددها كثير من النقاد والفلاسفة المعاصرين من أن الموسيقى الحديثة متنافرة ومنحلة، فهي ليست جديدة في تاريخ الفنون؛ فقد كان الانتقال من عصر موسيقي إلى آخر يقترن دائما بالسخرية والاحتقار من جانب المحافظين والتقدميين معا. ولقد سبق أن قال فولتير إن الأذن البشرية تحتاج إلى جيل بأكمله؛ لكي تعتاد أسلوبا موسيقيا جديدا. وقد يكون في هذا القول مبالغة، غير أنه في جملته صحيح. كذلك قيل إن تفضيل مؤلفينا الموسيقيين المعاصرين للأسلوب الموضوعي اللاشخصي في الموسيقى يعني أنهم يتجنبون أي شبهة للأحاسيس في فنهم. وهذا القول لا يقل بطلانا عن اتهام الموسيقى المعاصرة بالانحلال؛ فالموسيقي المعاصر يقول ما يريد أن يقوله بطريقته الخاصة، وهذه الطريقة التي يعبر بها عن نفسه مختلفة عن الطرق التي كانت متبعة في الماضي.
ويشدد على أنه ليس لنا أن نتوقع من الموسيقي الذي يعيش في أيامنا هذه أن يعبر عن نفسه بقالب وأسلوب موسيقى عصر الباروك، مثلما ينبغي ألا نتوقع من الشاعر المعاصر أن يكتب بلغة وأسلوب الشعراء في عصر إليزابيث. إن الموسيقي الحديث يخلق وفقا لمعيار عملي للقيم الموسيقية؛ فهو يقول ما يريد، أو ما يتحتم عليه أن يقوله بأي طريقة يمكنه بها أن يجعل موسيقاه فعالة. ولا شك أن الناقد الذي يستمع إلى هذه الموسيقى للمرة الأولى، ويحاول تقويم هذا التعبير الجديد عن المشاعر، ليس في موقف يحسد عليه؛ فعليه أن يتذكر أن كل جديد ليس بالضرورة جيدا، وليس كل تغير تقدما، ولكن ينبغي أن يدرك أيضا أنه إذا قدر الموسيقى الجديدة بمعايير قديمة، فقد يصبح في العصر الحالي بمثابة الناقد “أرتوزي” في عصره.