فقراء لكنهم ذواقون

إذا قيل لك أيها الرجل اللبق الفقير “ما حاجتك للإيتيكيت، وللاهتمام بكل فنون حسن التصرف، إنّها لا تخصّ ولا تُلزم أمثالك من أصحاب العيون البصيرة والأيادي القصيرة؟ وما قيمة أن تعرف كلّ تفاصيل البرجوازيّة ولا تمتلكها؟”. ساعتها، ما عليك إلا أن تقول لهم بصوت الواثق وأنت تبتسم في عيونهم “نعم أيها السادة، إني أعتقد بأني أعرف أكثر من طريقة لعقد ربطة العنق حسب الفصول والمناسبات، لكني قد لا أرتديها لأني لا أمتلك ثمنها. أفهم في أفخم أنواع السيجار الكوبي المصنع بالطرق اليدوية التقليدية في أميركا الجنوبية، وأُحسن أساليب حفظه وخزنه، أتقن تقليمه بالمقصّ الدائري وإشعاله بورق الصفصاف الناشف وتدخينه مع المشروب المناسب مرتديا بدلة السموكين التي جعلت في الأصل لتمييز المدخّنين من غيرهم في الحفلات الأرستقراطية..”.
هل تعلم؟
أعرف أيضا أنّ المرأة يجب أن تسبقني في الدخول، وأتقن بعض اللغات ونزع قبعتي تحت السقوف وعند التحية، وأفهم في دلالة الوقوف والانحناء لسيّدة أرستقراطيّة وتقبيل ظاهر يدها إن هي نزعت قفازها.
قل لهم أيها الذواق الفقير كيف أنك تميّز بين أفخم أنواع الكافيار القادم من البحر الأسود، وكذلك تفرّق بين مشروبات “الأبيرتيف “و”الديجستيف”، وكيف أنك تعرف أن اللحم الأحمر يرافقه نبيذ أحمر، واللحم الأبيض يرافقه نبيذ أبيض. إنك أيها الذي خانته ذات اليد، تتذوّق أطباق سمك “السومون فيمي” وتهتدي إلى المشروب المناسب مع الطبق المناسب، وتعرف ماذا تطلب من النادل قبل العشاء وبعد انتهائه.. ولا مانع لديك بعد العشاء من رقصة التانغو أو السالسا أو حتى السلو.
قل لهم أيها الفقير الذي خانته جيوبه إنك تختار الألوان الحارّة في الشتاء والباردة في الصيف، تفتح الهديّة أمام صاحبها، تبتسم في اللحظات الحرجة وتختلق حكاية مسلّية في لحظات الملل، ولا تحرج السيدات في أعمارهن ولا تسأل الرجال عن رواتبهم.
نعم سيّدي الذواق الفقير، إنك تعرف كيف تخفي حزنك في الأفراح، وتظهره فقط في الأتراح، وتكتم ضحكتك في المآتم، إنك تقدم على ملاعبة وملاطفة الأطفال الغلاظ أمام آبائهم وتنصت إليهم ولكن، من ينصت إليك؟
يبدو أن الأموال تصيب أهلها بالطرش أمّا الفقر فيصيب بالبحّة والارتباك، وأحيانا السخرية من الذات.
كم لديك رغبة دفينة أيها اللبق الفقير في أن تعلم المرفّهين كيف يترفّهون والأنيقين كيف يتأنّقون.. ولكن أين هم؟
هل ينبغي أن تشكر الأقدار التي أفرغت جيبك من النقود وملأت رأسك بالأفكار؟ الذواقون يحمدون الله الذي خلقهم أناسا مولعين بالتفاصيل التي لا يستقيم الجمال من دونها. هي تفاصيل وليست صغائر على كل حال. وهي التي تقود إلى الكتابة في الدراما، بامتياز، والطريقة الوحيدة للدخول إلى قلب المرأة، ملكة التطريز والمنمنمات الحياتية بلا منازع.
يقول بعض الذكوريين من المختفين وراء الجُمل المنتفخة “إنّ التفاصيل -كالنميمة- من صفات النساء، فليكن. من منّا لم يأت من رحم امرأة ومن منّا لم يتربّ في أحضان امرأة ومن منّا لا يرى في حديثهنّ بشاشة وفي قتيلهنّ شهيدا”، على قول الشاعر. ثمّ إنّ النميمة لا تسمّى باسمها إلاّ إذا مورست بقصد الإساءة، أما أدناها فمجرد ثرثرة يتسلى بها العاطلون.
التفاصيل تجعل العالم أجمل وأشهى وأغنى، إنها تلهمنا الحكمة والتدبّر في خلق الله. إنّها الطريق الأمثل لفن المعرفة.
الثقافة في أرقى وأعمق تعريفاتها، هي ليست اكتساب المعلومة وإنّما كيفيّة النظر إليها والتصرّف فيها وإلّا كان محرّك غوغل أهمّ مفكّر في العالم.
هل فعلا، كلّما ضاقت الجيوب اتّسعت الأفكار؟
لك تُرفع القبعات أيها اللبق المفلس، والذواق الفقير. لقد عوضت العوز بإتقان فنون العيش، والتهام الحياة من كل أطرافها مثل تفاحة خضراء وشهية. نعم، إن الفقر قبيح، لكن الفقراء دوما جميلون، وخصوصا الذواقين والظرفاء منهم.