فقدان الأمل في النظام العالمي يقدم نسخة مشوهة لليمين المتطرف

تطفو قضايا المهاجرين والبحث عن السيادة والاستقلالية السياسية عند كل حديث عن الصعود السريع والمقلق لليمين الشعبوي في الغرب. وتبدو المسألة شديدة التعقيد مع ارتباط الحركات القومية المتشددة بهجمات وأعمال عنف ضد الملونين وكل ما هو ليس جنسا أبيض. الأمر الذي يرصده الباحث الأميركي باتريك ستريكلاند، مؤلف كتاب “لقطات من مواجهة الفاشية في أوروبا”، في حوار خاص مع “العرب” عبر الإنترنت، مشيرا إلى أن اتساع الشعبوية نحو المزاج القومي المتطرف مرهون بفقدان إيمان شرائح عديدة في المجتمع الأوروبي بجدوى النظام السياسي والاقتصادي العالمي، وبقدرته المثلى على حل الأزمات المحلية.
لم تكن حادثة نيوزيلندا، في مارس الماضي، وقد راح ضحيتها 50 شخصا، مفاجئة لكثير من الخبراء، لأنها جاءت وفق توقعات بامتداد أكثر قسوة لليمين الشعبوي، الذي استهل لجوءه إلى العنف سريعا في بقاع مختلفة من العالم منذ العام 2016. واتسق ذلك مع سيطرة التيارات المتطرفة على عدد من الحكومات الغربية.
تظهر في الأفق دائما ثلاث قضايا جدلية تبحث عن إجابات حول ما يريده اليمين المتطرف من العالم ليعيش في سلام. تتلخص في وقف نزوح المهاجرين إلى القارة الأوروبية وطرد من هم مقيمون بالفعل، والثانية تختص بالتخلص من إرث الاتحاد الأوروبي الذي يقف حجر عثرة أمام الحفاظ على الهوية القومية والسيادة السياسية على أراضي الدول الأعضاء. وأخيرا الملف الاقتصادي، عبر كسر قواعد الاتحاد الأوروبي الصارمة، التي تفرض قيودا تجارية وتراها دول مثل إيطاليا واليونان سببا في تدهور أوضاعها المعيشية والاقتصادية.
يرى البعض من المراقبين أن القضايا الثلاث واجهة لأيديولوجيا فكرية أكثر تعقيدا تبحث عن منحى عالمي جديد، وتتمنى هدم النظام الدولي الحالي بكافة شؤونه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بعد أن خاب أمل اليمين في تحقيق نتائج ترضي غروره.
ويشرح الكاتب الأميركي باتريك ستريكلاند، وهو مؤلف كتاب “إنذار إنذار.. لقطات من مواجهة الفاشية في أوروبا” الذي صدر عام 2018، في حواره مع “العرب” ظاهرة اليمين المتطرف التي تغزو المجتمعات الأوروبية، والزخم الشعبي الذي باتت تلاقيه الأحزاب الشعوبية المحافظة. ويؤكد في البداية أن الدافع الرئيسي لهذه الظاهرة هو أن “السياسة الليبرالية الجديدة للنظام الرأسمالي المتوحش غذت الفكر الراديكالي في دول كثيرة من العالم، بعد أن فقد الناس عموما، والمواطنون الأوروبيون خصوصا، إيمانهم بكون تلك الأنظمة هي مفتاح تحسن بلدانهم وأوضاعهم المعيشية”.
وبعودته إلى الخلفيات التاريخية لحركات اليمين يشير ستريكلاند أنه “منذ الحرب العالمية الثانية وأوروبا تنتظر نهضة قوية تصاحبها حياة كريمة لمواطنيها، واتحاد يحترم حقوق الإنسان ويحافظ على الهيمنة العالمية، لكن بعد أكثر من 60 عاما وجد الشخص الأوروبي نفسه أمام صراع دائم مع الحياة بحثا عن قوت يومه من أجل أن يعيش حياة متوسطة، ما جعله يرغب في تغيير تلك السياسة العالمية ويستبدلها بأخرى تستجيب لتطلعاته”.
وتميل الكثير من البحوث إلى ربط صعود اليمين برغبة فئات معينة في الاحتجاج. وتعد تلك الفئات نتاجا للآثار الجانبية السيئة للنظام الرأسمالي العالمي الحالي، مثل حركة السترات الصفراء الفرنسية، وبالتالي فالنجاح الانتخابي للأحزاب المتطرفة يعود إلى التصويت الاحتجاجي للفئات المذكورة، أكثر مما يعبر عن إيمان عميق بأفكار اليمين.
ورأى الكاتب الأميركي، المقيم في اليونان، أن السياسات الأوروبية سببا في دفع اليمين نحو تحقيق المزيد من الشعبوية، عبر تبني سياسة تسببت في ترك اللاجئين يغرقون في البحر الأبيض المتوسط، ودفعت دولا مثل اليونان إلى الانهيار تحت وطأة التقشف والأزمة الاقتصادية. وتابع “الأحزاب الليبرالية واليسارية لم تعد مؤهلة للاستجابة للمشكلات التي تطرحها المجتمعات، والمناخ السياسي يميل بصورة تدريجية إلى تآكل شعبية الهيمنة الحزبية التقليدية ونفوذها”.
ولأن النظريات السياسية لا تؤمن بتآكل الشعبية السياسية وفنائها العدمي، فهي ترى أن شعبية الأحزاب في الشارع انتقلت إلى الأحزاب اليمينية التي تمثل المجتمع الأوروبي الراهن.
صراع ديني أم عنصري
يرى اليمين المتطرف أن هوية أوروبا مهددة حتى من قبل تضخم مشاكل اللاجئين، غير أن الحركات اليمينية بالغت في وصفها بأنها “خطر ثقافي” يهدد الغرب برمته. وفاقمت العمليات الإرهابية التي نفذتها تنظيمات إسلامية في أوروبا من هذا الخطر، الأمر الذي شكل وقودا لهذه الحركات لكسب المزيد من الأصوات في صناديق الاقتراع.
تبدو الصورة أكثر خطورة، في حال استطاعت الحكومات اليمينية، الفائزة في إيطاليا واليونان وإسبانيا ودول عدة في أوروبا الشرقية، التعاون مع اليمين الصاعد في العالم، والدفع نحو سياسات أكثر عنفا تجاه اللاجئين، واستهدافهم داخل الاتحاد الأوروبي.
ويشير ستريكلاند إلى أن مسألة تكوين جبهة يمينية موحدة في أوروبا لتنفيذ سياسة صارمة ضد اللاجئين ليست سهلة، لأن القوى الشعبوية ليست متراصة أو متحدة حول آلية فلسفية واضحة.
على سبيل المثال، إن كل ما يشغل الشعبويين في ألمانيا هو مناهضة المهاجرين، بينما في اليونان يركز اليمين على غلق الحدود وعمليات الترحيل المغلقة، ويصاحب ذلك وجود عصابات فاشية تتبنى العنف وسيلة لمحاربة اللاجئين والسياسيين الذين يناصرونهم. وبيّن ستريكلاند أنه على الرغم من أن تلك الجماعات تشترك في إيمانها بالقومية المتطرفة وتربطها بالجانب الثقافي والعرقي، لكن بعضهم يرى مشكلته مع المسلمين وحدهم، والبعض الآخر يتبنى فكرا عموميا ضد كل ما هو ليس من الجنس الأبيض، “ليس كل يميني يرغب في الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والجميع يبحث عن حل لمشكلته مع تدعيم نفوذ بلاده بصور مختلفة”.
تشبيه اليمين المتطرف بداعش إثر حادثة نيوزيلندا في محله، فكلاهما قد اعتمد تقنيات متشابهة لتنفيذ العمليات، كما أن المعتقدات مرهونة بفكرة الفاشية؛ مثل أن المسلمين وغير المسلمين لا يمكن أن يعيشوا في بلد واحد وعلى قدم المساواة
ويرصد كتاب “لقطات من مواجهة الفاشية في أوروبا” صورا مختلفة من الفكر القومي الشعبوي في محاولة لتفسيره وفهمه. ويقدم نظرة مختلفة لمفهوم الإسلاموفوبيا باعتبار هذه المسألة ليست وليدة العقود الأخيرة، لكنها ازدادت توحشا مع قرارات الزعماء الأوروبيين الذين “أضافوا الوقود إلى النار” بإغلاق الحدود وإصدار قرارات الترحيل والتمييز بين اللاجئين. وكل تلك الجهود قوّضت المُثُل الديمقراطية والإنسانية التي طالما نادى بها الغرب.
بشكل عام ساهمت القرارات المتخبطة لدول غربية عدة في تمهيد الطريق أمام الأحزاب اليمينية لترسيخ قواعدها الجماهيرية وحشد مناصريها في الشوارع، ثم انتقل الفكر اليميني بعد ذلك وبشكل سريع إلى البرلمانات وحقق نتائج مفاجئة في دول أوروبية ذات نفوذ واسع مثل هولندا والنمسا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ولخص ستريكلاند فكرة الكتاب، بأنها ارتبطت بعمله البحثي بعد أن طُلب منه الانتقال إلى أوروبا في زخم حراك المهاجرين إلى القارة العجوز في عام 2015، ليفاجأ بكيفية تغلغل الفكر اليميني في نفوس العامة الساخطين على نزوح مواطنين من الشرق الأوسط. وقرر من بعد ذلك توجيه دراسته صوب تحليل كل ما يتعلق بالفلسفة الشعبوية الغربية.
ووضع ستريكلاند بحثه عن دراسة التطور السياسي لحكومات دول ألمانيا واليونان وإيطاليا وسلوفاكيا وكرواتيا منذ عام 2015 وحتى عام 2018. وأكد أنه أراد أن يسلط الضوء عبر كتابه على حجم النزاع بين فريقين، أحدهما مناصر للجنس الأبيض وعنصري إلى حد كبير، والآخر يقاوم عبر الدعوات الإنسانية لنبذ الكراهية والعنف.
ويطرح عدم انحسار اليمينية في أوروبا ووصولها إلى سدة الحكم في دول مثل البرازيل والولايات المتحدة وإسرائيل، التساؤل حول إذا ما كان يمكن اعتبار اليمين عموما مسألة عالمية بجسد واحد متعدد الرؤوس؟
هنا يرد ستريكلاند بقوله إن الفاشية عابرة للحدود بشكل عام، لكن بعض التجارب اليمينية في العالم محلية جدا، ولا يوجد “مانيفستو” أو ميثاق واحد لليمين عموما. وشرح أن الفاشية موجودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي لا تعادي فئة معينة على حساب الأخرى، والدليل أنها تهاجم المسلمين أحيانا واليهود في أحيان أخرى، مثلما يعلن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بشكل صريح معاداته لرجال الأعمال اليهود.
في الوقت ذاته قد تناصر الفرق الشعبوية فئة على حساب أخرى؛ كما فعل الرئيس الأميركي اليميني دونالد ترامب عندما اعتبر القدس عاصمة لإسرائيل، ثم أجاز أحقيتها في السيطرة على هضبة الجولان المحتلة. وتابع بقوله “إن اليمين عبارة عن آفة عالمية لها رؤى وأفكار مختلفة وأحيانا شاذة، وأهم ما يجمعها هي التطرف والفاشية والعنصرية”.
إرهاب واحد
عكست الحوادث الإرهابية، التي قامت على نزعة يمينية عنيفة، التشابهات مع الجماعات الجهادية المتشددة مثل تنظيم داعش. وتتوافق الهيمنة القومية المتطرفة مع نظيرتها من جماعات الإسلام الراديكالي في سياسة الهدم والفناء. وكلاهما لا يبحث عن تدمير عدوه فقط، لكن يأمل في التدمير الكلي.
ويعد برينتون تارنت، الإرهابي الأسترالي الذي قام بهجوم نيوزيلندا مثالا صارخا لتلك النظرية، عندما دعا في أوراقه التي نشرها على منصات التواصل الاجتماعي قبل تنفيذه العملية بدقائق إلى إقصاء زعماء أوروبا، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، وغالبية القيادات الغربية الحالية، بذريعة إعادة بناء حضارة غربية سامية أكثر قوة وتأثيرا.
وإثر الحادثة سارع الخبراء في تشبيه داعش باليمين المتطرف، ويرى ستريكلاند أن التشبيه في محله وهو صحيح، فكلاهما قد اعتمدا تقنيات متشابهة لتنفيذ العمليات، كما أن المعتقدات مرهونة بفكرة الفاشية؛ مثل أن المسلمين وغير المسلمين لا يمكن أن يعيشا في بلد واحد وعلى قدم المساواة، مؤكدا “اليمين الشعبوي موجود من قبل ظهور داعش بكثير، وسواء وجد الإرهاب الجهادي أم لا، فلن يوقف ذلك صعود اليمين في العالم”.
وإن أقر الكاتب الأميركي بالصعود السريع للفاشيين في الغرب لكنه يستبعد أن يكون الطريق ممهدا أمامهم لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية، حيث هناك الكثير من التحديات التي يمكن أن تقاوم توسعهم، وربما تنجح في كسر شوكة اليمين المتطرف.
وذهب ستريكلاند إلى أن أول تلك التحديات، هو البدء في انتشار ثقافة مقاومة التطرف التي نتجت عمّا يعيشه العالم الآن من صعود الفاشية، كما يحدث في بريطانيا من فوضى نتيجة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، أو ما يعيشه الأميركيون من قلق نتيجة قرارات ترامب الموصوفة بالعشوائية، والتي تمس العالم كله.
تكمن مشكلة اليمينيين الذين وصلوا بالفعل إلى مراكز قيادية بالعالم في أنهم كشفوا عن رغبتهم العنصرية والمتشددة ضد كل الفئات، مسلمين ومسيحيين، ببشرة سوداء وبيضاء، رجال وسيدات، فالجميع يعاني من النزعة القومية المنجرفة خلف التشدد.
وبين ستريكلاند أن “الفاشيين أنفسهم يواجهون تحديات الاتحاد تحت لواء أيديولوجي واحد؛ وهم يخدمون أجندات مختلفة تصل أحيانا إلى معادلة “فاشية – فاشية” أو بمعنى آخر تقف الفرق الشعبوية أمام بعضها بشراسة عندما تفقد بوصلة تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية.
وختم الكاتب الأميركي حواره مع “العرب” متفائلا بمستقبل تتراجع فيه الشعوبية والنظرة الإقصائية والعدائية للآخر قائلا “من اليونان إلى روسيا، ومن الولايات المتحدة إلى إيطاليا، يوجد العديد من المعارضين للفاشية في السجون، ويمكن الاعتداد بهؤلاء كسد مستقبلي أمام الصعود الشعبوي، ويمكن أن يكونوا نواة لسياسيين جدد يتبنون نظاما سياسيا واقتصاديا عالميا بديلا، يقرب وجهات النظر بين أنصار الفكر الليبرالي واليميني، ويعيد التوازن المفقود في المجتمعات الغربية”.