فعاليات فنية خاصة تعوض تراجع القيمة الثقافية لوسط القاهرة

بينما تتجاهل سلطات الإشراف تعزيز الأنشطة الثقافية والفنية في وسط القاهرة، تجد جهات خاصة في ذلك فرصة ثمينة تستثمرها من أجل تشكيل وعي الشباب في المنطقة وإعادة الجاذبية إليها، باعتبار أنها مركز فني وثقافي مهم في مصر.
القاهرة- تعددت الفعاليات والمهرجانات الفنية التي تقدمها هيئات مستقلة في منطقة وسط القاهرة أو ما يعرف باسم “وسط البلد”، والتي تعج بالعديد من دور العرض السينمائي والمسرحي، ومثلت في مراحل تاريخية معينة شعاعا ثقافيا لكنه تراجع بشكل لافت في العقدين الماضيين مع قلة الاهتمام الحكومي، وما ألقته أحداث سياسية واقتصادية من ظلال سلبية على المنطقة وما تحويه من مؤسسات فنية مختلفة.
وانطلق مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة “دي كاف” في الثاني عشر من أكتوبر الجاري ويستمر حتى الخامس من نوفمبر المقبل، ويولي اهتماما بتقديم أشكال عدة من الفنون، بينها عروض فنية مسرحية وموسيقية وعروض الديجيتال، بمشاركة 80 فنانًا يقدمون 18 عرضا تمثل ثقافات 30 دولة حول العالم.
وتقدم عروض المهرجان في 13 مكانا تتواجد في منطقة وسط القاهرة وغيرها من الأماكن الثقافية التي تتنوع بين المسارح وقاعات العرض الحديثة ومساحات مفتوحة متعددة الاستخدامات.
وافتتح المهرجان، الخميس، بعرض فيلم “كلاش.. بعث رقمي” في ساحة روابط الفنون وهي من أبرز المسارح المستقلة في مصر وتتواجد في منطقة وسط القاهرة.
ويطغى الطابع الشبابي على الأنشطة الفنية المعروضة بمنطقة وسط القاهرة، وتأخذ الأنشطة المستقلة في الانتشار بين أوساط لا تنجذب بشكل كبير إلى دور العرض السينمائي الكلاسيكية ومسارح حكومية تعاني قدرا من الإهمال، بعضها يحتاج إلى التطوير على مستوى المنشآت وأفكار العروض الفنية المقدمة، ما يمنح فرصة لجهات خاصة توظف الفراغ للاستفادة من القيمة الثقافية لوسط القاهرة وما لها من انطباعات شبابية صاعدة، تمثل رمزية مهمة تشكل وعيها الثقافي والفكري.
واستطاع مهرجان “أيام القاهرة السينمائية” الذي تنظمه “سينما زاوية” خلال السنوات الماضية إحداث رواج فني في وسط القاهرة لما يقدمه من عروض متنوعة، وجذب قطاعات من الشباب استطاعت السينما إثارة شغفهم كبديل يتماشى مع أذواقهم.
وقال الناقد الفني عصام زكريا إن تعدد الفعاليات الفنية بمنطقة وسط القاهرة من جانب هيئات مستقلة يبرهن على وجود هيئات تخاطب التجمعات الشبابية التي تكتظ بها المنطقة في غياب خطط ثقافية تملأ حالة الفراغ التي يعاني منها هؤلاء مع وجود أغلبهم لساعات طويلة في المقاهي بلا فائدة حقيقية.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن تاريخ منطقة وسط القاهرة منذ عشرينات القرن الماضي يؤكد أنها القلب النابض لمصر ولعبت دورا في تشكيل مكانتها الثقافية، وفي ذلك الوقت امتلأت بالمئات من دور العرض والمسارح وأماكن انعقاد الندوات والفعاليات الثقافية والسياسية، ما يجعل هناك قناعة بأنه لا يوجد مكان في أحياء وسط القاهرة لم يعاصر تطورات الحركة الثقافية ولم يكن لديه ميراث فني يجب الاحتفاظ به.
وأشار إلى أن ما حدث في العقدين الماضيين يمكن وصفه بأنه تخريب لمنشآت ثقافية عدة في وسط القاهرة، مع إغلاق غالبية المسارح الكبيرة والاكتفاء بعدد قليل من دور العرض السينمائي التي تأخذ في الانهيار، وغالبيتها بحاجة إلى إعادة تأهيل وترميم لتكون قادرة على جذب الجمهور، في وقت لم تقم فيه وزارة الثقافة بدورها بشأن وضع خطة فنية تضمن إعادة الارتباط بين الشباب والمشاريع الثقافية.
وسمح غياب وزارة الثقافة بتدخل جمعيات أهلية وجهات خاصة لديها اهتمام بنشر الثقافة والفنون ومحاولة إزالة الغبار عن بعض الأماكن الثقافية في وسط القاهرة وتوظيفها لتنظيم مهرجانات تحقق عوائد تجارية مهمة، استناداً إلى قيمة أماكنها وما يتم تقديمه فيها من أعمال ثقافية وفنية، وانجذاب فئة من الشباب إليها، ما يسمح بانتظام انعقاد المهرجانات المستقلة التي تجد مساندة كبيرة من جانب الرعاة والمعلنين.
ويحقق مهرجان “منصات” للأفلام وتنظمه مؤسسة “مصر دوت بكرة” (أهلية) لتنمية المهارات بسينما زاوية في وسط القاهرة جماهيرية واسعة اعتماداً على نوعية الأفلام القصيرة التي يقدمها، وعلى الرغم من توقفه نحو عامين نتيجة إجراءات الغلق الشامل لفايروس كورونا، إلا أنه عاد في مايو الماضي ليجذب فئات جديدة من الشباب والمهتمين باكتشاف المواهب لمنحه الفرصة لعرض مجموعة من أفلام الطلاب.
وقرر مهرجان الجونة السينمائي لأول مرة هذا العام في دورته المقبلة تدشين برنامج خاص لعرض أفلامه في “سينما زاوية”، ورأت إدارة المهرجان أن ذلك يحقق جماهيرية أكبر لما يتم عرضه من أفلام في منتجع الجونة المصري المطل على البحر الأحمر، في ظل توقعات بأن تشهد السينما إقبالا واسعًا من الجمهور، غير أن تأجيل المهرجان بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة أجّل المشروع مؤقتا.
وأوضح زكريا، وهو أيضًا باحث مهتم بالشأن الثقافي، في حديثه أن المهرجانات والفعاليات الفنية الخاصة التي تأتي بمبادرات فردية لا تكفي لاستيعاب الطاقات الشبابية الموجودة، فقد كانت هناك نواد ثقافية وفكرية حكومية غابت الآن، ولم يعد لها حضور ملموس، كما أن الأماكن غير المستغلة كبيرة للغاية وبحاجة إلى تحرك جهات مختلفة تستطيع أن تُعيد إليها بريقها السابق.
وأكد أن هناك قطاعات من الشباب لديها رغبة قوية في تغيير أنماط حياتها من خلال مشاهدة فيلم أو مسرحية أو المشاركة في ندوة ثقافية أو فكرية، والأزمة تكمن في التضييق الحاصل على بعض الفعاليات التي تقوم بها جمعيات أهلية حصلت على تمويلات من مؤسسات عالمية لنشر الثقافة والفنون، وهو ما يجب أن يكون محل تشجيع من جانب وزرة الثقافة والجهات الرسمية.
ويؤكد مثقفون أن منطقة وسط القاهرة تأثرت سلبًا بمجموعة من المحاذير الحكومية التي جعلتها أكثر حرصا على مراجعة ما يتم تنظيمه من فعاليات، فالأحداث السياسية التي جرت عام 2011 ثم 2013 أثرت على تطورات حركة الثقافة في المنطقة، ما انعكس على اتساع حركة إنشاء دور العرض السينمائي في المساحات التجارية القريبة منها، ولم تتم إعادة تأهيل الدور القديمة، وهناك بعض المسارح الآن داخل فنادق وجامعات خاصة في مصر لضمان السيطرة الأمنية عليها.
وذكر المخرج المسرحي محمد الشرقاوي أن تنظيم فعاليات فنية بمنطقة وسط القاهرة يشكل دفعة إلى الأمام نحو استعادة جاذبيتها، واهتمام جهات خاصة بها يشي أن الجهات الرسمية لا تمانع في عودة المنطقة كمحور للحركة الثقافية، وتوفير ميزانيات لتحديث مسارح البيت الفني للمسرح التابعة لوزارة الثقافة وتجديد أغلبها مؤخرا نقلة مهمة.
وأوضح لـ”العرب” أن ما تعاني منه مسارح وسط القاهرة أو غيرها من المسارح المنتشرة في مناطق عدة يحتاج إلى تطوير أيضا على مستوى المحتوى المعروض فيها، لأن الاهتمام الظاهر حاليا يركز على الصورة أكثر من المضمون، ولعل اتجاه الحكومة المصرية إلى إنشاء مدينة ثقافية متكاملة في العاصمة الإدارية الجديدة بشرق القاهرة يبرهن على التطور الإنشائي، والتي ننتظر أن يصاحبها مضمون مناسب.
ولفت إلى أن البيئة المحيطة في عدد من المسارح بوسط القاهرة ومنطقة العتبة الواقعة في القلب منها تنفر الجمهور من التوافد إليها، وإذا كان هناك تطوير ينبغي أن يطال الكثير من الشوارع والممرات التي تتواجد فيها، وأن المنطقة تعاني من توقف الحركة الثقافية بوسط البلد بشكل كامل في الفترة بين 2011 وأوائل عام 2016.
ويمثل تدخل شركات خاصة على خط تطوير المناطق والممرات حدثا مهما، وهو ما تظهر تجلياته في مهرجان “دي كاف”، إذ تقوم إحدى الشركات المسؤولة عن ترميم المباني التراثية في وسط القاهرة بدعم أحد برامج المهرجان وتقديم عروضه في “ممر كوداك” الشهير، إلى جانب مساحة “فاكتوري” و”الهنجر”، وهما من العلامات المهمة على الأنشطة الثقافية والفنية في القاهرة.