فضيل بومالة وجه الحراك الجزائري الذي نبت في تربة السلطة

برّأت محكمة في الجزائر مطلع هذا الشهر مارس الجاري الإعلامي والأستاذ الجامعي الجزائري فضيل بومالة، الذي يعد واحدا من أبرز وجوه الحراك الشعبي، من تهمة “المساس بسلامة وحدة الوطن“. ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي شريط فيديو لبومالة وهو يغادر سجن الحراش بالضاحية الشرقية للعاصمة وسط صيحات “تحيا الجزائر“.
بومالة أكسبته العادة على الكلام المنمق المزخرف بمصطلحات تبقي المتلقي مشدودا وفاغرا فاه، قدرة هائلة على الخوض في كل شيء، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة إلى الأنثروبولوجيا إلى الفلسفة وغيرها من المعارف التي يعرف مراجعها وحده. ووحده يقرأها ويتعمق فيها ويفهم مراميها وفصوصها وحكمها وهو يمتحنها في الفسحات والمساحات التعبيرية التي مر عليها في التلفزيون أولا ثم في المؤسسات والبرلمانات الأجنبية وبعض الصحف والمواقع الكثيرة، ثم في صفحته على فيسبوك وأخيرا في قناته اليوتيوبية.
متلازمات لغوية
صاحب حذلقة لغوية مبهرة، خصومه يقولون إنها سفسطة من الطراز الرفيع، يدور جملا ومعاني تكاد تكون هي ذاتها، يعيد صياغتها بلون واحد وخطاب واحد، والبعض الآخر يراه مناضلا من طراز خاص دفع ثمنا لسعيه نحو التغيير المنشود.
القطيعة. الدمقرطة. الإنتلنجسيا. الحداثة. متلازمات لغوية برع بومالة المولود في جيجل في استعمالها منذ أن أطل في التسعينات من خلال حصته الثقافية الفكرية “الجليس” التي كانت تبثها القناة التلفزيونية الجزائرية. حصة أوقف مواضيعها على شتى الملل والنحل، خاض في كل شيء وتكلم مع ضيوفه في كل شيء، بلغة كانت مرات بسيطة ومرات بقيت حكرا على نخب لم تنزل من عليائها إلا في ما ندر. نقاشات مريحة وبيزنطية وجدل معقم بروائح فلسفات غربية يخرجها بومالة من قراءاته المتعددة، كما يقول، إلى آخر ما وصل إليه الفكر العالمي وما طحنته المطابع من كتب ومجلات متخصصة وعلمية.
برنامج بومالة التلفزيوني الشهير لا يعرف أحد، حتى هذه اللحظة، لماذا أوقف فجأة ودون سابق إنذار. أفتى الكثيرون في أسباب لكن الرواية الوحيدة التي سربها بومالة هي أن السبب كان غضب الرئيس بوتفليقة منه
كان ظهوره اللامع في تلك الفترة الحساسة من تاريخ الجزائر المعاصر بمثابة غيث ثقافي حيث كان التلفزيون يفتقر إلى مثل هذه الحصص النقاشية المثيرة مع وجود حصص أخرى ثقافية بمحتويات فلكلورية أكثر منها حصصا تعنى بالحوار والأسئلة والنقاشات. كان هامش الحرية في برنامجه يقاس بالمسطرة، وهو يفهم الأمر جيدا، لأن أي تجاوز للخطوط الحمراء في تلفزيون عمومي تابع للسلطة وما يستتبع ذلك من أوامر وتعليمات والأخذ بالرأي والمشورة من أصحاب القرار الظاهرين والمتخفين، قد يكلف في أحسن الأحوال الإيقاف والإبعاد.
بالطبع كان بومالة يشتغل تحت مظلة ذلك الأمر بنوع من الأريحية، ولم يكن يقلق حيال الأمر، المهم أن يرسخ وجوده وصورته في عيون المشاهدين وينغرس في عقولهم وفي مخيالهم كمحاور لبق عميق وحكيم وفاهم كل كبيرة وصغيرة من عظائم الأمور ونوائبها وشواردها حتى في طريقة جلوسه والنظرة والتأمل في ما يقوله الضيف وفي طريقة طرح الأسئلة عليه وجذبه إلى أطراف الظل لإخراج ما يمكن إخراجه من معلومات وكلمات. لم يكن يتوانى في الكثير من الأحيان عن استعراض عضلاته الفكرية في مشهدية تنم عن نوع من الغرور، وما زالت هذه اللازمة ترافقه إلى اليوم حيث لا يترك مجالا للسماع أو الرد وحين يتكلم أو يحلل أو يناقش أو يعطي تراه يحتكر الفضاء والمكان والساعة والزمن وينفرد لوحده مالكا للحق والحقيقة والصواب وما عداه لا تليق به الأحوال والمقامات.
ظلال رجالات النظام
استمر ذلك البرنامج لسنوات مر فيه من مر، وقيل فيه العجب، وتغلغلت صورة بومالة في وعي الكثير من المشاهدين. توقف فجأة دون سابق إنذار. وأفتى الكثيرون في أسباب ذلك، وزاد عمرو هنا في الرواية وأشاع زيد رواية أخرى. وظهرت العديد من الأقاويل عن خلفيات القرار، ولكن الرواية الوحيدة التي سربها بومالة هي أن السبب كان غضب الرئيس بوتفليقة عليه. بل قال إن لوالدة هذا الأخير كما روى له آنذاك رئيس مجلس الأمة الراحل بشير بومعزة هي من كانت وراء الأمر حيث لم تعد تطيق رؤيته على الشاشة. هكذا ببساطة.
رواية متواترة على لسانه، لا إسناد عينيا لها، فكلا الشاهدين اليوم تحت التراب، الوالدة وبومعزة، والرئيس السابق عاجز ومقعد ومختف، ولكن المؤكد أن القرار سيكون له تأثير بالغ على بومالة وسيكون نقطة تحول حادة في تعاطيه مع الواقع والراهن.
وعندما اعتقل أول مرة في سنة 2011 عندما لعلع الربيع العربي في دول الجوار وخرج الشارع الجزائري تيمنا بما يحدث هناك، اشتكى للأمن كما يروي أحد الذين كانوا معه من الاضطهاد والعوز اللذين طالاه جراء توقيف برامجه وقطع معاشه. اندهش الذين كانوا يستجوبونه من الأمر، كانوا يظنون أنهم سيرون فيه تلك الصورة الفريدة التي سوقها عن نفسه من خلال “الجليس”، مفكرا عضويا على رأي الغرامشيين، نقديا فيلسوفا ومحللا من الطراز الرفيع. كانوا ينتظرون سماع الحكمة والفلسفة والعقل والجمال والشعر، ولكنه كان يلوم بصوت فيه أنين وغصة ومرارة، ويشير باليدين، وتلك متلازمة أخرى مدروسة بعناية فائقة للفت الانتباه، إلى هناك، حيث الأصابع المبهمة الغامضة التي تحرك خيوط اللعبة، وهو الذي بقي واقفا ووفيا للنظام إلا أنه طرد بأمر من الرئاسة عندما شغل وظيفة مكلف بالإعلام لمدة تقارب الشهرين في عهدة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني الأسبق عمار سعيداني سنة 2005 الملاحق اليوم من العدالة، حيث لم تكن آنذاك أي فرصة تنفس لمن يعارض الرئيس بوتفليقة، حين انضم بومالة كناطق رسمي إلى حملة الغريم الأبدي علي بن فليس، ما شكل ضربة قاصمة له للخروج نهائيا من نعيم النظام وكما يحلو له القول بعدها إنها كانت بداية التضييق عليه وعلى رأيه المستنير، وبداية انشقاقه على منظومة الحكم لأنه لم يعد يصلح لأداء الوظيفة.
سيرته المهنية لا تبتعد عن شجرة السلطة، ومناصبه كانت دوما بمباركة أسياد النظام، كما عندما وفر له الجنرال بتشين التسهيلات المستترة لينظم ملتقى دوليا كبيرا، وليشرف على مجلة يمولها رجل أعمال مقرب من الجنرال
وظائف كانت دوما بمباركة أسياد النظام وتحت أعينهم وفي كنفهم وفي ظلهم، كمظلة الجنرال بتشين الرجل القوي في فترة التسعينات الذي وفر له التسهيلات المستترة منها والمعروفة كتنظيمه ملتقى دوليا كبيرا حول ابن رشد، وإشرافه على مجلة فكرية عنوانها “ابن رشد” ممولة من طرف رجل أعمال مقرب من الجنرال، وفي هذا تبقى علاقته بالجنرال بتشين محوطة بظلال كثيفة مكتنفة بعدد من التأويلات من بينها الولاء والطاعة للقوة والسيطرة التي كان يتمتع بها الجنرال بتشين، والانتماء إلى الشمال القسنطيني حيث التكتل والصحبة والتعصب والمصالح الضيقة، وقد تعدت علاقة بومالة بالجنرال إلى أكثر من هذا الأمر، وكلفه هذا الأخير بنقل رسائل مشفرة للأمين العام لحزب التجديد الجزائري آنذاك نورالدين بوكروح وقد كان بومالة عضوا فيه. نقلها للحد من الحملة التي شنها بوكروح على أعمدة الصحف كاشفا وفاضحا وقائع ما قال إنه فساد وعبث وتسلط يمارسه الجنرال للتخويف والترغيب لمن يخالف الخط. كان ذلك في صيف 1998 صيف الصراعات التي ألقيت من علياء النظام وتكفلت بالمهمة النخب كل حسب موقعه، وقذفت كرة اللعب في الساحات وفي المواقع وفي الصحف وفي النوادي، عرّابوها بومالة بوكروح وغيرهم من الأذرع.
ليست هذه اللعبة هي الوحيدة في سجل بومالة، بل يروي الإعلامي أحميدة عياشي حادثة لقائه به بالصدفة عندما خرج من مكتب ”كولونيل“ مكلفا بمتابعة الإعلام والنشرات الإخبارية والإشهار والصحف وما يكتبه الكتاب والإعلاميون في المخابرات، كان ذلك قبل أن يحل أحد رموز المعارضة الشرسة على برنامجه “الجليس”، وقد قيل إن الزيارة كانت بهدف المشورة ورسم خطة الأسئلة والحوار.
الحراك واجهة انتقام
الدولة الجديدة. العسكرتارية. صناعة المستقبل. النسق التراجعي. متناقضات الماهية. تدريب العقول. انتقال ديمقراطي مؤسساتي حقيقي. مفاهيم جديدة ببذلة أنيقة طورها بومالة مما بشر به في برنامجه في الماضي، وها هو يزينها في الوسائط التي تكاثرت وظهرت، وهي بحسبه أسرع وأفيد وأهم وتصلح لكل شيء. الوسائل تغيرت، وتبدل الواقع، وخرج الشارع لا يلوي على شيء. جال بومالة العالم في مؤسسات حكومية وغير حكومية، داخل الأجهزة وخارجها.
وتردد أنه زار البيت الأبيض والكونغرس، التقى بمن التقى شخصيات معروفة ومنكرة، أخرى ظاهرة وسرية. نسج علاقات وشبكات معقدة مع هيئات وتنظيمات عالمية. هنا لم يعد
التأثير ينفع ولا يقدر أن يحرك شيئا. الضغط سيكون من هناك في حلقات ذكر وسماع وانتباهات شفافة ومزينة بحقوق ومبادئ الإنسان والخوف على الكرامة والحرية.
بشر بلغته المعتادة المكررة بما حل بالبلاد من انتهاكات ودوس على الحياة. أسطوانات قديمة ومعرفة بالألف واللام. عسكر مستبد طاغ ونظام دكتاتوري يجب أن يحاسب ويدخل السجون ويزول ولا بد أن يقف العالم حكومات وأفرادا ضده ويمنع عنه السلاح والمعونة والدعم والمساعدة. كانت تلك نغمته في البرلمان الأوروبي سنة 2010، اشتكى، وكاد يذرف الدموع، وطلب من الاتحاد الأوروبي الإعانة على إنشاء لجنة عربية أوروبية لحماية حقوق الجزائري المهضومة التي يعرفها بحكم انغماسه فيها حتى العظم.
في بداية الحراك وبالضبط في منطقته التقى بومالة بالعديد من المواطنين، وعلى رأس هؤلاء جميعا جمعية تعنى بالتاريخ القديم لتك المنطقة، جل أعضائها من الفرانكفونيين بشهادة بعض من التقـتهم ”العرب“، نصح ونظم وأعطى التعليمات التنظيمية وغيرها من الأمور المتعلقة بالحراك. فهو مدرب جيدا ويعرف أساليب التأطير والتدبير وحسن المعاملة، حدد المعالم والشعارات وهي نفسها التي ما زالت تظلل إلى اليوم الشارع. “دولة مدنية وليست عسكرية“، نشط في فايسبوك وكتب مقالات وآراء ومنشورات قالت النيابة إنها مساس بالمصلحة الوطنية أودت به إلى السجن.
صاحب حذلقة لغوية مبهرة، خصومه يقولون إنها سفسطة من الطراز الرفيع، يدور جملا ومعاني تكاد تكون هي ذاتها، يعيد صياغتها بلون واحد وخطاب واحد، والبعض الآخر يراه مناضلا من طراز خاص
قصة بومالة مع الحراك طويلة وعريضة وكذلك مع النظام. أمضى في هذا الأخير بعضا من عمره بلا كلل أو ملل، خدمه بوعي وتحرك ضمن أطره وفتح له أبواب عدة للنظر والتموقع. وهو مثال للنخب التي استعان بها النظام مهما كانت تسميته في حروبه السرية المرتبطة دوما بالمصالح والجهوية والحفاظ على الوضع القائم. ولم يكن انتقاله إلى صف المعارضة وبالتالي إلى الشارع سوى تخندق جديد لأفق ينتجه هذا الأخير من ألم المعاناة الحقيقية التي تضرب وجوده منذ سنوات غاب فيها الفرد الجزائري المفعم بأحلام حياة أفضل والذي لم يكن بومالة يعرفه أصلا عندما كان ينعم بخيرات النظام.
عند الكثير من الجزائريين يظل بومالة منتج منظومة حياة دخلت النظام من بابه الواسع، ماضيه يشهد عليه ويظل يطارده. علاقاته المريبة بالعسكر الذين يهاجمهم اليوم، بعض الساسة الذين اشتغل تحت قبتهم ثم اليوم انقلب عليهم بحدة. الهيئات الخارجية والأجهزة المعادية دوما في نظر السلطة للبلاد. الإسلاميون الذين ينظرون إليه كعلماني. العلمانيون الذين ينظرون إليه بعين خاصة. خصومه الذين يرون أنه بيدق في قبضة قوى غامضة. النخب التي تعتبره مثالا يقتدى به. والعوام الذين يسيرون خلفه على سلس.
يحسب لبومالة أنه تحول إلى رمز من رموز الحراك، لم يصنع داخله، بل طوره النظام ليصبح كذلك، بعد أن ربى فيه وهم الحضور وبلاغة الكلام والقول، وأوصله إلى حد أن اعتبر نفسه حسب تصريحه لحظة خروجه من السجن شبيها بـ”النبي يوسف، بريء من الذئب ولم يبرأ من إخوانه”، حين ردد أنه “إنسان حر”. وهذه لعبة أخرى يجيدها النظام ببراعة.