فصائل منظمة التحرير خارج الموقف الفلسطيني العام

استخدام الشباب الفلسطيني لوسائل التواصل هو الذي صنع الزخم لتظاهرات القدس مثلما كانت القبضة الأمنية الإسرائيلية هي السبب المباشر في جعل المقدسيين يهتفون ضد عباس ويطالبون برد ثأري من غزة.
الخميس 2021/05/20
فصائل منظمة التحرير لم تعد عنوانا يحسم أي شيء

كثيرة هي الدلالات التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية ـ الفلسطينية الأخيرة التي لم تنته حتى اللحظة. من بين هذه الدلالات أن من تسمّى “فصائل منظمة التحرير” بدت خارج الحرب تماما، وأن السلطة التي أنشأها الفصيل الأكبر أو قيادته، لم تعد عنوانا يحسم أي شيء. وهذه الفصائل في الواقع هي براقش التي أوصلت نفسها إلى هذا المآل، مرة بالرهان على تسوية مقلوبة الأولويات والمراحل، ومرة أخرى عندما رضخت لواقع السلطة ولم تستطع تحويلها إلى كيان طليعي جامع يقود مشروع الاستقلال الفلسطيني، بل إن هذه الفصائل حافظت على التباين بين خطاب كله من له خطاب منها!

الثلاثاء اضطرت حركة فتح إلى الاتكاء على الجماهير التي أهملتها، فاتخذت من التظاهرة الحاشدة في رام الله، موضوعا تتحدث فيه عن حراك وإنجاز، لها تحديا وحصرا، بينما الناس التي خرجت إلى الشارع في يوم إضراب عام في عموم أراضي فلسطين التاريخية، لكي تعلن عن استنكارها للتدمير الممنهج لغزة بالطيران الإسرائيلي، وللإعلان عن موقفها المؤيد لرواية الأطراف الفلسطينية التي انخرطت في الحرب من غزة، أي الرواية التي تؤكد على وجوب إطلاق الصورايخ، تلبية لنداء المقدسيين أثناء تعرضهم لهجمات المتطرفين الإسرائيليين الأصوليين في حي الشيخ جراح والحرم القدسي. وفي الحوارات التلفزيونية القليلة التي شاركت فيها عناصر من السلطة كان لافتا حرص هذه العناصر على تعداد “إنجازات” لها، عند الإشارة إلى هبّات غضب شعبية عفوية لإزالة حواجز حديدية (25 أبريل الماضي) أبريل أو قبلئذٍ، في يوليو 2017 كاميرات وضعها المحتلون عند بوابات المسجد الأقصى وفي داخله.

كان هناك، قبل جولة الحرب الأخيرة، انسداد الأفق السياسي تماما، وتعنّت إسرائيل مع انتعاشها باتفاقيات التطبيع العربية، وتحول قيادة السلطة الفردية الفلسطينية إلى ما يشبه الجثة المحنّطة

لا يختلف اثنان معنيان بوضع النقاط على الحروف على أن كل ما حدث في الضفة والقدس، ما هو إلا أعمال شعبية عفوية وغير منظمة، لا شأن للفصائل القديمة الراكدة بها، وكان الغضب الشعبي هو صاحب الفضل في صدور قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في التاسع من هذا الشهر، تأجيل البتّ في ملف طرد عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جرّاح، بعد طلب قدّمه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية أفيخاي مندلبليت. فقد جاء متأثرا بمظاهرات يومية طالبت بإنقاذ الحي من التهجير القسري والتطهير العرقي لسكانه.

وفي الحقيقة كان استخدام الشباب الفلسطيني لوسائل التواصل على نطاق واسع، هو الذي صنع الزخم الكبير لتظاهرات القدس، مثلما كانت القبضة الأمنية الإسرائيلية، بغلاظتها، هي السبب المباشر في جعل المقدسيين يهتفون ضد عباس ويطالبون بردٍ ثأري من غزة، وناشدوا القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف بالتدخل ولم ينتظر الضيف وكتائبه!

كل ما حدث في الضفة والقدس، ما هو إلا أعمال شعبية عفوية وغير منظمة

أسباب عدة يمكن أن تجعل المختصين في الشأن الفلسطيني، ميّالين إلى تحميل فصائل منظمة التحرير وقيادة السلطة المتمثلة في رئيسها المتفرد؛ المسؤولية الأولى، على الجانب الفلسطيني عن انفلات الأمور دون تحميل حماس أي مسؤولية بحكم ما تعرض له الفلسطينيون في القدس من أعمال قمع وحشية. فلو أن هذه السلطة، ومن ورائها الفصائل، كانت حريصة على تأسيس نظام سياسي رصين يجمع كل الأطراف ويكرّس الديمقراطية والقانون ويحافظ على المؤسسات الدستورية، ويمضي بالفلسطينيين وفق استراتيجية واحدة؛ لما شاهدنا المشهد الفلسطيني يتوزع على استراتيجيتين، واحدة للقلة التي تريد أن تتحاشى المواجهة تماما وتكتفي من “الحكمة” بذم حماس مع إظهار التعاطف اللفظي مع الضحايا في غزة، والثانية التي تعاطفت معها الجماهير الفلسطينية، وهي استراتيجية قذف إسرائيل بالصواريخ وخوض الغمار.

وبحكم طبائع الأوساط الحاكمة في إسرائيل، ومأزقها الداخلي الذي تفاقم بعد أربعة انتخابات عامة، فشلت فيها في تأسيس حكومة وتنوي الذهاب إلى انتخابات خامسة، كانت الرعونة هي السمة الأساسية للتصرفات الإسرائيلية. لكن هذه الأوساط نفسها، وبعد الذي جرى ويجري حتى الآن، تنبّهت إلى الحاجة لمساعدة عباس بإعطائه ـ شكلا ـ تنازلها عن التنفيذ العاجل لإخلاء بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، والتعهد بعدم اجتياح المسجد الأقصى.

عندما قررت التفاعل مع الذي يجري في القدس، في إهاب عملية ردع للإسرائيلي، طالما أن لا طرف دوليا يردعها عن انتهاك كل المواثيق الدولية وعجز الطرف الرسمي الفلسطيني عن التأثير في السلوك الإسرائيلي، ولو بشفاعة “التنسيق” الأمني وكراهة المقاومة؛ رأت حماس أن هذه فرصتها التي لا يجوز التلكؤ في اهتبالها، لكي تبدو صاحبة المسؤولية الأولى في الدفاع عن الشعب الفلسطيني. ذلك لاسيما وأنها استطاعت مراكمة وتطوير المزيد من عناصر القوة بكلفة كبيرة، تسليحا وحفرا لمنظومة أنفاق، يسميها الجيش الإسرائيلي “المترو”.

وفي بحر أسبوع واحد بعد فتح النيران، أطلقت حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى صغرى، نحو ثلاث آلاف صاروخ، بمعدل نحو 450 صاروخا في اليوم الواحد، وأثناء هذا الإطلاق، ظهر تنوع فاجأ الإسرائيليين في نوعية الصواريخ نفسها. وعلى الطريقة الإيرانية ظهرت أسماء جديدة للصواريخ الأبعد مدى والأكثر قوة تفجيرية بل ظهرت أيضا مجموعة من المُسيّرات، وتحدث الجيش الإسرائيلي عن نماذج صغيرة من الغواصات، وقال إنه احتواها وفجرها. وفي هذه الأثناء، لجأت إسرائيل إلى الأسلوب القديم ـ الجديد، المحسوب نفسيا، وهو دفع الطيران إلى تدمير البيوت والعمائر فوق أصحابها، ما خلا ذلك التدبير، بإعطاء بضع دقائق للسكان للإخلاء سريعا قبل قصف الأبراج وتسويتها بالأرض.

اضطرت حركة فتح إلى الاتكاء على الجماهير التي أهملتها، فاتخذت من التظاهرة الحاشدة في رام الله، موضوعا تتحدث فيه عن حراك وإنجاز، لها تحديا وحصرا

وعلى الرغم من الخسارة الفادحة التي مُنيت بها غزة في الأرواح والعمران، وسقوط ما يزيد قليلا عن 240 فلسطينيا منهم 61 طفلا وجرح نحو 6500 حتى كتابة هذه السطور؛ إلا أن وتيرة التأييد للمقاومة ظلت في ارتفاع، لأن إسرائيل لم تفتح مجالا لرأي فلسطيني آخر يتفاءل بإمكانية الحصول على أقل الحقوق بداهة، حتى ولو اقتصرت على تسهيلات في المعيشة والحركة وشيء من الاستقلال الاقتصادي المرتهن لبروتوكول باريس سيء الصيت، الذي يشترط وصول الواردات من السلع عبر إسرائيل.

كان هناك، قبل جولة الحرب الأخيرة، انسداد الأفق السياسي تماما، وتعنّت إسرائيل مع انتعاشها باتفاقيات التطبيع العربية، وتحول قيادة السلطة الفردية الفلسطينية إلى ما يشبه الجثة المحنّطة وإلغاء الانتخابات التي يمكن أن تحرك المياه الراكدة وتذهب بالفلسطينيين إلى واقع سياسي داخلي جديد، مع استمرار التنسيق الأمني دون أي ثمن سياسي؛ وهذا كله هو الذي أنتج في المحصلة هذه الحرب التي دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا لها، وفرضت على الإسرائيليين نمط تفكير جديد، يشوبه التحسس مع اهتزاز القناعة بأن هذه الدولة ليست محصّنة تماما، وأن أي “نخوة” عربية أو إيرانية من الجوار، لو حدثت،
كان يمكن أن تضطرها إلى أن تتحسس سلاحها الذري.

8