فرنسوا تروفو عبقري السينما الذي جذب شارل أزنافور إلى الفن السابع

يحسب للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو أنه من مؤسسي الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، لكنه أيضا أول من أظهر موهبة وحش الأغنية الفرنسية شارل أزنافور في التمثيل، حين جعله بطل ثاني أفلامه، والذي رغم عدم تحقيقه شهرة جماهيرية يظل واحدا من أهم الأفلام في السينما الفرنسية وشاهدا على محاولات مخرجه في التجريب الفني.
يروي فيلم “السيد أزنافور” الذي شاءت الصدف أن يبدأ عرضه في نهاية العام الماضي قصة حياة نجم الأغنية الفرنسية شارل أزنافور، وقد أخرجه الثنائي جران كود مالا ومهدي أدير ولعب دور البطولة فيه الممثل الجزائري طاهر رحيم في صالات السينما الفرنسية.
وبدأ عرض الفيلم بالتزامن مع احتفاء الصحافة الفرنسية بمرور أربعين عاما على وفاة المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو، أحد رواد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية وأحد كبار نقاد مجلة “دفاتر السينما” العريقة.
جعلنا هذان الحدثان نعود بالذاكرة لعدة عقود في القرن الماضي ونستذكر فيلم “"أطلق النار على عازف البيانو" ” الذي صدر عام 1960، ثاني أفلام فرنسوا تروفو الذي أدى بطولته أزنافور في أول تجاربه السينمائية فكان بالإضافة إلى الغناء ممثلا سينمائيا وهو الذي لقبته الصحافة الفرنسية بالوحش المقدس للأغنية الفرنسية.
عازف شهير
أدى أزنافور في الفيلم شخصية شارلي كولير عازف البيانو الخجول والمهذب والذي يتكلم في سره أكثر ما يتكلم بلسانه، والملاحق من قبل لصين كان أخاه الأكبر متورطا بالعمل معهما وسرقهما فكان ذنبه الوحيد أنه أخاه مما يجعلهم يطاردونه، وهو معجب بلينا (ماري دوبيز) نادلة الحانة التي يعمل فيها لكنه لا يستطيع البوح بمشاعره بسبب خجله الشديد فتبادر هي وتصارحه بحبها له أيضا. يفاجأ حين تخبره أنها تعرف ماضيه وأن اسمه ليس شارلي بل إدواردو سارويان عازف البيانو الشهير.
ينتقل الفيلم في هذا الجزء إلى ماضي شارلي أو إدواردو العازف الفقير الذي أحب تيريز (نيكول برغر) نادلة المقهى الحنونة والطيبة وتزوجا لاحقا وأحبا بعضهما كثيرا، ثم ساعده زبون كان يجلس في المقهى الذي تعمل فيه تيريز وأصبح إدواردو مشهورا وبدأ اهتمامه فيها يضعف وأصبح كل تركيزه يتجه إلى حفلاته الأمر الذي يدفع تيريز في النهاية – في مشهد لا ينسى أثبت أن نيكول برغر أهم ممثلات عصرها لكن عمرها القصير حال دون نجوميتها – أن تقول له إنها لم تعد تحبه ولا تريده وكأنها بدأت تخاف من فقدانه بعد أن أصبح مشهورا فبادرت هي قبل أن يتخلى عنها لكنه فوجئ بهذا الأمر وكعادته ارتبك وصمت وخرج من الغرفة بدل أن يذهب إليها ويضمها ويهدئ من مخاوفها.
هنا اكتفى الممثل بمونولوج داخلي، وبعد خروجه من الغرفة رمت تيريز نفسها من النافذة الأمر الذي سبب له صدمة كبيرة وقرر أن يتخلى عن كل شيء ويبدأ من جديد، حتى أنه قام بتغيير اسمه، لكنه حين أحب لينا النادلة ماتت هي الأخرى في آخر الفيلم، وكأن قدره أن تموت النساء اللواتي يحبهن.
لم ينجح الفيلم جماهيريا لكنه لاقى حفاوة نقدية كبيرة وكان الفيلم الروائي الطويل الثاني لتروفو الذي كان تجريبه واضحا فيه، وخصوصا في أشكال المونتاج (التوليف) الجديدة التي استخدمها كالشاشة المنقسمة والكاميرا المحمولة اللاهثة معظم الفيلم.
كان هذا الفيلم بداية لسينما جديدة أطلقها تروفو مع رفاقه نقاد “دفاتر السينما” كجان لوك جودار وكلود شابرول. ولا ننسى أداء شارل أزنافور الرائع لشخصيته في الفيلم حيث أدى دوره بواقعية شديدة أبرزت موهبة كبيرة يملكها كممثل أيضا. ويبقى هذا الفيلم الذي اجتمع فيه مجدد السينما الفرنسية مع عبقري الغناء من أهم أفلام الموجة الفرنسية الجديدة.
بدايات تروفو
هذا الفيلم كان بداية لسينما جديدة أطلقها تروفو مع رفاقه كجان لوك جودار وكلود شابرول ولا ننسى أداء شارل أزنافور الرائع لشخصيته في الفيلم حيث أدى دوره بواقعية شدي
بدأ تروفو (1932-1984) حياته الفنية كناقد فني في مجلة دفاتر السينما الفرنسية العريقة التي أسسها الناقد أندريه بازان ومجموعة من النقاد السينمائيين الذين سيصبحون لاحقا مخرجين ويطلق على السينما التي ينجزوها الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، أبرزهم كان جان لوك غودار وكلود شابرول وفرنسوا تروفو الذي كان يحب سينما المخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك، فكتب الكثير عن أفلامه ولاحقا صور حوارا معه على شريط سينمائي يظهر فيه وهو يناقشه في السينما.
كانت البداية الحقيقية لتروفو في الإخراج السينمائي مع فيلم “400 ضربة” عام 1959 الذي يروي قصة مراهق مشاغب يدخل إلى الإصلاحية، وفي هذا الفيلم كان يروي قصته نفسها في صباه. في العام التالي أي عام 1960 صنع فيلمه “أطلق النار على عازف البيانو” الذي تحدثنا عنه سابقا في بداية هذا المقال. في عام 1962 صنع فيلم “جول وجيم” بطولة الممثلة جين مورو، الفيلم الذي تدور أحداثه قبل الحرب العالمية الثانية ويحكي قصة صديقين يحبان الفتاة ذاتها.
في عام 1966 صنع فيلمه الشهير “فهرنهايت 459” المأخوذ عن رواية أميركية تحمل الاسم نفسه وهو فيلم خيال علمي يروي قصة مجموعة تغزو الأرض وتحاول استخدام التلفزيون لتمرير أيديولوجيتها الشمولية وتقوم بحرق الكتب المهمة.
في عام 1973 صنع فيلمه الشهير “الليلة الأميركية” وأدى هو بطولته حيث لعب دور مخرج سينمائي يريد أن يصنع فيلما بسرعة فتواجهه عوائق عديدة، وكان هذا الفيلم من أشهر أفلامه.
وعام 1980 قدم فيلمه الشهير (المترو الأخير) بطولة كاترين دونوف وجيرار ديبارديو والذي تدور قصته في باريس أثناء الاحتلال النازي لها حيث ينقسم الشعب بين مقاوم وعميل للمحتلين الجدد. ويسلط الفيلم الضوء على الحياة الفنية في أحد أشهر مسارح باريس وهو مسرح المونترو حيث يقدم قصة ممثلة يملك زوجها فرقة مسرحية تقدم عرضها على هذا المسرح.
وبعد أربع سنوات من صدور هذا الفيلم توفي تروفو في ذروة شبابه ليترك أثرا وبصمة مميزة في السينما الفرنسية ويكون أحد أبرز مجدديها حيث عرف باعتماده التجريب في كل أفلامه.