فرنسا تكثّف حراكها صوب العراق

بغداد – يقوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء بزيارة إلى العراق هي الأولى له إلى هذا البلد المأزوم ماليا وأمنيا وسياسيا، لكنّها الثالثة التي يقوم بها مسؤول فرنسي كبير في أقلّ من شهرين إلى بغداد التي استقبلت منتصف يوليو الماضي وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، ثمّ وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي أواخر شهر أغسطس الماضي.
وتكشف مختلف تلك الزيارات المتقاربة زمنيا قرارا فرنسيا بالعودة إلى ساحات عربية كان لباريس فيها قدر من النفوذ في أوقات سابقة لكنّه تراجع في زحمة المتنافسين التقليديين على تلك الساحات، بالإضافة إلى ظهور تركيا كلاعب ترى فيه حكومة ماكرون تهديدا لمصالح فرنسا، ليس فقط في ليبيا وشرق المتوسط، ولكن أيضا في العراق، حيث تعمل أنقرة على مسارين متوازيين؛ مسار عسكري يشرّع التدخّل المباشر في الأراضي العراقية بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمّال الكردستاني، ومسار اقتصادي تأمل تركيا من خلاله في الوصول إلى أموال النفط العراقية عبر الاستثمار في حاجة العراق إلى الطاقة الكهربائية وسائر المواد الاستهلاكية، فضلا عن رحابة سوق الإعمار في المناطق العراقية المدمّرة بسبب الحرب ضد تنظيم داعش.
وكما هي الحال بالنسبة للحراك الفرنسي الكثيف صوب لبنان، فإن ملء الفراغات أمام تركيا قد يكون ضمن الأهداف الكبرى لحراك باريس المتزايد باتّجاه بغداد.
وكشفت مصادر حكومية عراقية الاثنين لوكالة فرانس برس أن الرئيس ماكرون سيقوم بأول زيارة رسمية له إلى العراق الأربعاء “تعبر عن الوقوف إلى جانب البلاد في وجه الأزمة التي تعصف بها”.
ويعد ماكرون أرفع مسؤول يزور العراق منذ تولي رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة في مايو الماضي. وستستغرق الزيارة يوما واحدا. وقال مصدر في الحكومة العراقية إن الرئيس الفرنسي “سيلتقي رئيس الوزراء والرئيس العراقي ومن المؤمل أن يجري محادثات مع سياسيين فاعلين”.
وأكد مسؤولان عراقيان آخران هذه الزيارة لكن قصر الإليزيه لم يؤكدها إلى حدود مساء الاثنين. ووفقا لمصادر عراقية، ستركز الزيارة على السيادة العراقية، في ظل إصرار بغداد على السير على طريق مستقل بعيدا عن المواجهة بين حليفيها واشنطن وطهران.
وكان موضوع السيادة العراقية ذاته قد أثير بمناسبة زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية، مؤخرا إلى العراق، حيث ربط مصدر فرنسي تلك الزيارة بموضوع “التدخلات التركية” على الأراضي العراقية خصوصا الضربات الجوية ضد حزب العمال.
وقال المصدر التابع لوزارة الجيوش الفرنسية “انتقلنا إلى مستوى مقلق من المساس بالسيادة العراقية”، مؤكدا “دعم فرنسا الكامل للسيادة العراقية في إطار توازن إقليمي معقد”.
وكانت تركيا قد قرّرت في يونيو الماضي، ودون التشاور مع العراق شنّ حملة عسكرية جوية وبرية داخل الأراضي العراقية لمطاردة المتمرّدين الأكراد. ورغم اعتراضات بغداد واحتجاجاتها الرسمية شديدة اللهجة على تلك الحملة، فقد واصلت القوات التركية توغّلها في عمق الأراضي العراقية، موقعة خسائر مادية وبشرية في القرى والمناطق التي دخلتها تلك القوات أو طالها قصفها الجوّي.

ولا يبدو أن تركيا تستثني من حساباتها تركيز وجود عسكري دائم لها على الأراضي العراقية، حيث أقامت منذ سنوات قاعدة برية في منطقة بعشيقة قرب مدينة الموصل في الشمال العراقي، ولا تزال إلى الآن ترفض الاستجابة للمطالبات العراقية بإخلائها.
وعلى عكس معظم المسؤولين الأجانب الذين يزورون العراق لن يتوقف ماكرون في أربيل، مركز كردستان العراق الإقليم شبه المستقل عن الدولة العراقية، وبدلا من ذلك سيأتي قادة أكراد العراق لمقابلته في بغداد بحسب المصادر العراقية نفسها.
وشهد العراق خلال هذا العام سلسلة من الأزمات بدأت بالضربة الجوية الأميركية بطائرة مسيرة في يناير الماضي والتي قتل خلالها الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس. ووجهت إيران بعد ذلك ضربات محدودة لمواقع بغرب العراق تتمركز فيها قوات أميركية.
وتعرض اقتصاد العراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك، لأضرار كبرى بسبب انهيار أسعار النفط وكذلك بسبب أزمة تفشي فايروس كورونا المستجد كما هو حال باقي دول العالم.
كما يعاني العراق من نقص في مياه الشرب والري ومن تهالك بنيته التحتية وانقطاع مزمن في الكهرباء التي تنقطع في معظم محافظات العراق 12 ساعة على الأقل يوميا.
ويعزى ذلك في الغالب إلى فشل وفساد النظام السياسي القائم في العراق على المحاصصة الحزبية والطائفية بقيادة أحزاب شيعية موالية لإيران وعملت طيلة السنوات الـ17 الماضية على توطيد نفوذها في البلد وحمايته.
وكثيرا ما مثّل الفساد وسوء الأوضاع الاجتماعية أهمّ قادحين للغضب الشعبي الذي بلغ ذروته خريف العام الماضي مع اندلاع انتفاضة غير مسبوقة تواصلت لأشهر وأفضت إلى سقوط حكومة عادل عبدالمهدي الذي خلفه مصطفى الكاظمي على رأس الحكومة.
ويرفع الكاظمي شعارات الإصلاح وإضفاء التوازن على العلاقات الخارجية للعراق، وهو ما تعمل قوى دولية من ضمنها فرنسا على تشجيعه.
ولا تعتبر فرنسا لاعبا طارئا على الساحة العراقية، إذ سبق أن جمعت بين باريس وبغداد في زمن حكم الرئيس الأسبق صدام حسين علاقات جيدة طالت عدّة مجالات من بينها مجال التسلّح والتكنولوجيا النووية. وعندما قرّرت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن غزو العراق في 2003 اتخذت فرنسا في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك موقفا معارضا للغزو على عكس العديد من القوى الغربية على رأسها بريطانيا.