فرنسا تعيد الاعتبار لألفونس موتشا "ديزاينر" الفن الحديث

حتى نهاية شهر يناير القادم، يحتضن متحف "اللكسمبورغ" بباريس معرضا فنيا للفنان التشيكي ألفونس موتشا، رائد لافتات نجوم المسرح، وهو مناسبة للوقوف على تجربة هذا الفنان الذي عُدّ أكثر الفنانين الأجانب التصاقا بباريس وأجوائها، مثلما عُدّ ديزاينر الفن الحديث.
قدم الفنان التشيكي ألفونس موتشا (1860-1939) إلى باريس في ثمانينات القرن التاسع عشر، مثل عدد كبير من طلبة الفنون الوافدين من أوروبا الوسطى، بعد أن مرّ بأكاديمية الفنون الجميلة بميونيخ، حيث اكتسب تكوينا أكاديميا في رسم الوجوه مع ميل إلى أعلام التاريخ ووقائعه.
وفي باريس، تابع دروس جول جوزيف لوفيفر، وجان بول لورانس في أكاديمي جوليان، فكان طبيعيا أن يتأثر باللوحات التاريخية الكبرى للورانس في زخارفه المسرحية من بعد، وتوجيه مساره الوجهة التي اشتهر بها.
واجهته عام 1889 صعوبات مالية عندما تخلى عنه عرابه الكونت إدوارد كوين بيلاسي، فلجأ إلى الرسوم التصويرية لكسب عيشه، مستفيدا من تكوينه الأكاديمي ومن تقنيات الطباعة الحديثة، وكانت اللافتات في ذلك الوقت تحتل مكانة مركزية في الثقافة البصرية، بسبب تطور الطباعة بالألوان، وتزايد طلبيات الإشهار التجاري، ما حول مدينة باريس إلى أروقة في الهواء الطلق. فذاع صيته لدى الناشرين وأصحاب المطابع الذين يعود لهم الفضل في رواج اسمه عالميا، ولا سيما بعد أن تعاقد مع النجمة سارا برنار.
هذا التعاقد الذي جاء عن طريق الصدفة، كما في الخرافات الشعبية، ففي ليلة “نويل” من العام 1904، نما إلى علمه، وهو يصوّب بعض الأعمال في مطبعة، أن الممثلة تريد الحصول قبل رأس السنة على لافتة لمسرحيتها “جيسموندا” التي تنوي تقديمها في “مسرح النهضة” الذي اشترته، ولا سيما أن المسرحية التي تتهيأ لتقديمها لم يقبل عليها جمهور كبير، ما دفعها إلى حشد كل الطاقات للعرض الثاني المزمع تقديمه على خشبة مسرحها في الرابع من يناير 1895.
ولسوء حظها، كان رسامو اللافتات الكبار منشغلين بأعياد الميلاد ورأس السنة، ما دفع بورنوف، صاحب المطبعة، إلى اللجوء إلى موتشا كي يعد لافتة تليق بسارا برنار في أجل لا يتعدى ثمانيَ وأربعين ساعة.
وكانت النتيجة مذهلة، أبهرت سارا برنار نفسها، إذ قالت حسب مؤرخي الفن “كم هي جميلة! من الآن فصاعدا، سوف تعمل لصالحي، وتكون بقربي، لقد أحببتك”.
انبهرت النجمة باللافتة إذن، ووقعت معه عقدا بست سنوات، يتولى خلالها إعداد لافتات عروضها، وديكورها، وحتى أزيائها، وسرعان ما صار موتشا مقدّما على زملائه البارزين مثل تولوز لوتريك، وجول شيريه، ومردّ ذلك أن موتشا اختار حجما جديدا، يكاد يكون طبيعيا، وامرأة ذات طيف سماوي، متوجة بالريحان، مكللة بفسيفساء ذهبية، تشبه إلى حدّ بعيد القديسة البيزنطية أو حورية أعياد الربيع التي كانت تقام على شرف الإلهة فلور.
كما أن لافتته ابتعدت عن الألوان الصارخة المعتادة، وإيثارها سبيكة متعددة من اللون الأزرق البستال، ثم أثنى على ذلك بسلسلة من اللافتات لمسرحيات أخرى منها “غادة الكاميليا”، و”هاملت” و”ميدي”..
وكان موتشا في كل أعماله يطبق المبادئ نفسها التي توسل بها في إعداد لافتة “جيسموندا”: حجم كبير وضيق بوجه واحد، تقف فيه الممثلة في مكان غير عميق على غرار تمثال قديسة داخل كنيسة، ما جعل الناس يقبلون على لافتاته، ويتخاطفون، ويقتنون نسخا منها من المطابع، بل ثمة من المهووسين بسارا برنار من كان يقلّع اللافتة من موضعها ليعود بها إلى بيته.
وراجت لافتات موتشا حتى صارت تتصدر علب المرطبات، ومضى حين من الدهر اختفى فيه اسم موتشا بعد عودته إلى بلده الأصلي، وظل الناس يقتنون المرطبات في علب ذات رسوم بديعة، دون أن يعرفوا صاحبها، ما دفع أحد المؤرخين إلى القول إن موتشا كان مغمورا بقدر ما كان مشهورا.
لقد طوّر موتشا، بوصفه رسام لافتات، أسلوبا بالغ الخصوصية تميز بأشكال متعرجة، وخطوط عضوية وسلم ألوان باستل (أي فاتحة وهادئة)، هذا الأسلوب ما لبث أن شكل رمزا لحركة ناشئة في حقبة الفنون الزخرفية هو الفن الجديد.
وعندما فتح المعرض العالمي بباريس أبوابه عام 1900، كان موتشا رأس حربة تلك الحركة، حتى أنه لما زار الولايات المتحدة لأول مرة عام 1904، وُسم بـ”أكبر فنان زخرفي في العالم”.
ورغم أنه حاز صيتا عالميا، فقد ظل اسمه مرتبطا بصورة باريس 1900، ولكن نشاطه كرسام لافتات غطّى على ملامح فنه الأخرى التي تشمل لوحات ومنحوتات ورسوما وزخارف وتحفا فنية، وهو ما حرص معرض متحف “اللكسمبورغ” الباريسي على إبرازه، مستعيدا آثاره الفنية ليقدّم للزوار صورة رجل يرسم ذاته، رجل صوفي بالمعنى الواسع للكلمة، وصاحب رؤية فنية، مشفوعة بفكر سياسي، في تلك المرحلة التي شهدت تجدّد القومية التشيكية وتصدع إمبراطورية النمسا المجر.
كل عمله التحضيري من أجل ملحمة سلافية شغلته ما بين عامي 1911 و1928، يشهد على تعلقه بموطنه الأصلي، وحلمه بوحدة الشعوب السلافية، والخلاصة أن المعرض، إضافة إلى التركيز على ألفونس موتشا كسيد الفن الجديد، حرص على تقديم تجربته في شتى أوجهها.