فرنسا تستعيد أعمال خواكين سورويا رسام الهواء الطلق

قريبا من حدائق كلود مونيه بجيفرني، يكتشف زوار متحف الانطباعيين مجموعة من اللوحات للأسباني خواكين سورويا (1863-1923) تفيض بالدفء والنور، هذا الفنان ذو الأسلوب المميز، الذي ربّته خالته وعمّه الذي كان يصنع الأقفال، بعد وفاة أبويه وهو لا يزال في سن الثانية من عمره، تتلمذ منذ العام 1877 على نحات يدعى كايتانو كابوث، ثم التحق بأكاديمية الفنون الجميلة سان كارلوس بمدينته.
ولما بلغ الثامنة عشرة استقر بمدريد لدراسة روائع متحف برادو، قبل أن يحصل على منحة ويسافر إلى روما لدراسة الفنون الإيطالية، وكانت عودته إلى مدريد عام 1890 بداية انطلاقته وتسجيل حضوره بشكل لافت بفضل أعمال تحمل بصمته الخاصة.
ذلك أن سورويا ولع منذ بداياته بالرسم في الهواء الطلق حاول الإمساك بخصوصية ضوء البحر المتوسط، سواء في سباخ بلنثية أو على الشاطئ، على غرار الانطباعيين الفرنسيين، الذين ازداد اطلاعا على أعمالهم وتأثر بهم خلال زياراته المتكررة إلى باريس منذ العام 1885.
شكل اتصال سورويا بالفن الانطباعي منعرجا في أسلوبه، من جهة تمثله للصورة الآدمية كالأطفال العراة، والصيادين في مراكبهم، والنسوة في فساتينهن البيضاء، في لوحات ذات خلفية يتراءى فيها منظر طبيعي أو شاطئ من الشطآن، حيث يكتسي انعكاس الضوء على صفحة الماء والظلال والشفافية ووهج الضوء ولون الصورة دورا هاما في إبراز الشخصيات المرسومة.
لقد ساهمت سرعة الإنجاز لديه وتفرد مَلْوَنه في نجاح أسلوب يمتح من الانطباعية، ويتسم بقوة تذكّر بأعمال كبار الفن الباروكي كالأسباني فيلاسكيس (1599-1660) والهولندي فرانس هالس (1580-1666).
فالعناية التي يوليها للضوء المنعكس على أجساد السباحين أو على فستان أو سيارة، تميز عملا يقوم على التعبير اللوني بالأساس، ما دفع بعض النقاد في فرنسا إلى القول إن أعمال سورويا تحوي سحر المتوسط كله في بضعة سنتيمترات مربعة.
وبالرغم من كونه أقل شهرة من زملائه في قرية جيفرني، إلا أنه شهد هو أيضا مسيرة مليئة بالنجاحات، فبعد دراسته في إيطاليا، كان يشارك باستمرار في صالونات باريس ثم في أوروبا كلها، وما لبث أن لفت انتباه عالم الفن في تلك الفترة، إذ فاز بالميدالية الشرفية في أول مشاركة له في صالون جمعية الفنانين الفرنسيين، مثلما نال الاستحسان إبان مشاركته في الدورة الأولى لبيينال فينيسيا، كما حصل على الجائزة الكبرى في المعرض العالمي بباريس لعام 1900، بفضل لوحته “حياكة الشراع”.
ومع ذلك يظل النجاح الأكبر له في نظر النقاد وعشاق الفنون الجميلة، ذاك الذي حازه عام 1906 عقب معرضه الخاص برواق جورج بوتي، والذي كان من أهم داعمي الانطباعيين.
هناك ميل فطري لدى سورويا إلى اللوحات المغمورة بالضوء، وإيثاره الألوان البيضاء والسماوية وما يبهج منها النظر
هذه المرحلة هي التي يتوقف عندها المعرض، وليس أدلّ على ذلك من عنوانه “سورويا، رسام أسباني في باريس”، للتذكير بعلاقاته بفناني الطليعة، واتصالاته بمديري الأروقة الفنية وتجار اللوحات وهواة جمعها، وكذلك النقاد والصحافيين ومؤرخي الفن.
هذا المعرض، الذي مرّ بميونيخ وحطّ رحاله بباريس قبل أن يتوجه إلى مدريد، يركز على المرحلة التي شهدت نجاحات سورويا، سواء في الصالونات الباريسية أو المعرض العالمي، أو معرض رواق جورج بوتي، ثم إن انطلاقة سورويا نحو أوروبا وبداية شهرته العالمية، فاقت شهرة علمين آخرين في تلك الفترة هما الأميركيان جيمس أبّوت ماكنيل ويستلر (1834-1903) وجون سنغر سارجنت (1856-1925)، إذ عدّه النقاد ومؤرخو الفن من أكبر فناني الغرب الأحياء مثلما جازته الدولة بأوسمة، وإن لم تقتن منه سوى لوحة وحيدة عام 1895 هي “سبخة الصيد” لمتحف لوكسمبورغ.
يحتوي معرض “سورويا، رسام أسباني في باريس” على خمسين لوحة معروضة بطريقة كرونولوجية وثيمية في الوقت ذاته، وكلها أعمال نالت الإعجاب حيثما عرضت كـ”أطفال على شاطئ البحر”، “وصيادون بلنثيون” و”المركب الأبيض” و”عودة من الصيد البحري” و”الصيف” و”لقطة آنية” و”حياكة شراع” التي كان أنجزها عام 1896، إلى جانب عدد من التخطيطات الأولية المرسومة على الورق، ذلك أن سورويا سار على هدي المناهج التقليدية في إعداد اللوحة، إذ كان يقوم بدراسات مسبقة، ينجزها بوصفها أعمالا تحضيرية لتشكيلات أكثر طموحا، وكلها تشهد على ميله الفطري إلى اللوحات المغمورة بالضوء، وإيثاره الألوان البيضاء والسماوية وما يبهج منها النظر.
وفي المقابل، ورغم نبوغ سورويا الذي يوصف بآخر الكلاسيكيين الأسبان الكبار وانتشاره في أوروبا وفي أميركا، إلا أن النسيان طوى ذكره نظرا إلى الإنتليجنسيا التي كانت تعيب عليه ولعه برسم فرحة حياة مزعومة، خلافا لإغناثيو ثولواغا (1870-1945) الأكثر التصاقا بالواقع في رأيهم. ولم تستحضره الذاكرة الثقافية إلا عام 1963، حيث أقيم له في مدريد معرض استعادي احتفاء بمئوية مولده، تلاه معرض آخر قارن بينه وبين معاصرة الأميركي جون سنغر سارجنت، الذي كان له الفضل في التعريف به لدى الجمهور العريض، ثم اعتباره رائد التحديث في أسبانيا.