فرنسا: الحاجة إلى كتلة تاريخية ضدّ اليمين المتطرف

من الأهمية النظر إلى نتائج الانتخابات الأوروبية بالعمق التفسيري اللازم، لاسيما منها تلك المتعلقة بفرنسا بما تحمله الأوضاع في البلد من تداعيات مباشرة وغير مباشرة على الأوضاع في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.
ففوز اليمين المتطرّف في الانتخابات الأوروبية في فرنسا وفي إيطاليا وفي بعض البلدان الأخرى، وتحقيقه فوزا ساحقا مقارنة بالأحزاب الكلاسيكية ونعني بها اليمين الجمهوري واليسار الاشتراكي يشير إلى أنّ الخارطة السياسية تغيرت بشكل بنيوي يستلزم المُلاحظة المتأنية.
ذلك أنّ ثنائية الشعبوية اليمينية المتطرفة، في مقابل التيارات الليبرالية الديمقراطية، استبدلت بشكل واضح ثنائية اليمين واليسار التي كانت تحكم منطق المشاهد السياسية.
منذ عقد تقريبا واليمين المتطرف في فرنسا يكتسح صناديق الاقتراع بشكل متراكم ومطرد، سواء في الانتخابات البلدية أو البرلمانية أو الرئاسية، مستفيدا من تزايد موجات الكراهية للأجانب وانتشار نزعات القومية الشوفينية، والتي عادة ما تتقاطع مع فشل مؤسساتي في تشغيل الشباب وتحصين الطبقة المتوسطة وفي تجنب التفاوت الطبقي في المجتمع.
يتغذى اليمين المتطرف من فقدان الأمل في التيارات الديمقراطية الاجتماعية، ومن فكرة الاستعلاء القومي، ومن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وهو بارع في صناعة مقولات نمطية سهلة الابتلاع
وفي الوقت الذي توهّم فيه الكثير من المتابعين أن وصول جون ماري لوبان إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية ضد جاك شيراك في العام 2002، كان محض صدفة سياسية ونتاج الانهيار الدراماتيكي لليسار الفرنسي، أكد وصول مارين لوبان إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لعام 2017 ومنافستها الشرسة لمرشح تحالف المال والإعلام إيمانويل ماكرون، ومن ثمة اكتساح المقاعد الأوروبية في 2019، أنّ اليمين المتطرف له من العمق الجماهيري والخزان الانتخابي ما يجعله رقما صعبا في كافة المعادلات السياسية القادمة في فرنسا.
لم يجانب رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب الصواب، حين اعتبر أنّ اليمين المتطرف صار واقعا متجذرا في المشهد السياسي، حتى وإن كان هذا التصريح يحمل في طياته إقرارا بفشل النخبة السياسية الديمقراطية والليبرالية من اليمين والوسط واليسار في تقديم البديل للناخب الفرنسي، وإعادة بلورة عقد اجتماعي فرنسي يقوم على تحيين مبادئ الجمهورية وفق استحقاقات الهوية الوطنية والتنوع الثقافي ودمقرطة المجال العمومي.
من الواضح أن جزءا من الانتصار المستمر لليمين المتطرف الفرنسي، كامن في الانكسار المطرد للأحزاب الكلاسيكية ونعني بهما خاصة اليمين واليسار.
فلئن دخل الأول في دوامة سياسية وهوياتية كبرى، بعد أن أضاع الخطّ الديغولي والبوصلة الشيراكية على وقع النموذج السيء الذي قدمه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي طيلة عهدته، فإنّ اليسار الاشتراكي يعيش حاليا واحدة من أصعب مراحله التنظيمية والسياسية فالحزب ذهب ضحية مكاسرة وحروب زعاماتية فارغة بين فيلة الحزب الاشتراكي (فرانسوا هولاند، وسيغولين روايال ومارتين أوبري، وستروس كان)، ويبدو أنّ الورثة الحاليين أقل بكثير من إعادة الدماء والحياة للحزب.
ولأنّ ماكرون وتياره، مجرد ظاهرة سياسية وإعلامية واتصالية وتسويقية، أعجز من التبيئة صلب المشهد السياسي ودون قدرة على حال إشكال محلي على غرار السترات الصفراء، فإن اليمين المتطرف وجد الساحة متاحة أمامه للتغلغل في وجدان وعقل شريحة معتبرة من الناخبين الفرنسيين.
المفارقة أن الحزب الذي رفض جاك شيراك مجرد ذكر اسمه أو الدخول في مناظرة مباشرة مع رئيسه في 2002 بسبب التناقض البين بين مبادئ وخطاب الحزب ومبادئ الجمهورية الفرنسية، ينال في 2019 الاعتراف بالقوة والإقرار بالشعبية من قبل رئيس الوزراء إدوارد فيليب.
منذ عقد تقريبا واليمين المتطرف في فرنسا يكتسح صناديق الاقتراع بشكل متراكم ومطرد، سواء في الانتخابات البلدية أو البرلمانية أو الرئاسية، مستفيدا من تزايد موجات الكراهية للأجانب
وفي مشهد انتخابي قائم، بالإمكان بكثير من الحذر استشراف موازين قوى سياسية جديدة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الفرنسية القادمة، قد تضع مارين لوبان في قصر الإيليزيه، فلئن انتصرت الديماغوجيا في الولايات المتحدة، فلا يوجد موانع من اكتساح الأيديولوجيا في فرنسا وفي باقي أوروبا. ما يهدّد أوروبا اليوم هو البناء الفكري والسياسي الذي بُنيت عليه عقب الحرب العالمية الثانية، ونعني به مجموع المبادئ التحررية والديمقراطية والليبرالية التي جعلت منها قارة الحريات الخاصة الجماعية وإقليم التوافق بين الدولة الأمة من جهة، والمواطنة المفتوحة من جهة أخرى.
ما يهدّد أوروبا اليوم، ليس الانتخابات بحدّ ذاتها بقدر ما هو غياب المبادئ الليبرالية لدى المنتخبين ديمقراطيا، فما قيمة أن يحظى المنتَخب بشرعية الحكم وهو مفتقد لأسس السلم الاجتماعي واحترام التنوع الثقافي والدفاع عن الأقليات سواء منها الأصلية أو المهاجرة، فكم من طرف يمتلك أصوات الصناديق ولم يتملك مبادئ الحكم الليبرالي والديمقراطي.
يتغذى اليمين المتطرف من فقدان الأمل في التيارات الديمقراطية الاجتماعية، ومن فكرة الاستعلاء القومي، ومن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وهو بارع في صناعة مقولات نمطية سهلة الابتلاع من عموم الجمهور لاسيما عندما تدغدغ شيئا من الهوية الوطنية المجروحة.
لا حل أمام فرنسا خاصة، سوى تشكيل كتلة تاريخية من اليمين والوسط الديمقراطي واليسار، تكون حالة صد للتيار اليميني المتطرف الجارف لا فقط لمبادئ التنوع وإنما لمبادئ الجمهورية.