"فرانكشتاين في المدينة".. الوحش في الفنون التشكيلية

الشرّ يكمن في كلّ التفاصيل الحياتيّة واليوميّة للبشر، في الكلمات والإيحاءات والمشاعر والحركات وفي المتعة والكذب والحزن والسخط والضحك.
الخميس 2020/01/02
هيام القطي تبرز تأثيرات الحياة التي يعيشها كلّ فنّان على أسلوب فنّه

نظم بيت الرواية في تونس بالتعاون مع المركز الوطني للترجمة بمدينة الثقافة في العاصمة التونسية تظاهرة "فرانكشتاين في المدينة، أو الوحش في الآداب والفنون" في دورتها الثانية ضمن سلسلة تُستدعى وتُستلْهم فيها شخصيات مرجعيّة من الروايات العالميّة.

واعتنت الدورة السابقة العام الماضي بشخصية "دون كيشوت" وتأثيرها في الآداب والفنون. ويشرف الروائي التونسي كمال الرياحي على مؤسّسة بيت الرواية. وتميزت الدورة الثانية، التي نظمت يومي 19 و20 ديسمبر الماضي، بحضور الروائي العراقي أحمد السعداوي صاحب رواية "فرانكشتاين في بغداد" الذي تحدّث عن وقع الحرب في إنتاج صوره المسوخيّة المكتوبة.

وضمت التظاهرة مداخلات متنوّعة تراوحت بين الطرح الأدبي والروائي لموضوع "الشرّ" المُستوحى من رواية "فرانكشتاين" للكاتبة الإنجليزية ماري تشيلي، وبين الاقتباسات الفنيّة عن ثيمة "الوحش" أو "المسخ" في السينما والمسرح وفي الفنون التشكيليّة، ودور الترجمة في التأثير على ثقافة المجتمعات.

وقدّمت الدكتورة هيام القطي مداخلة حول تجربة الفنانة التشكيلية الفرنسيّة نيكي دي سانفال وتجربة الرسام الانجليزي-الايرلندي فرانسيس بيكون، وحاولت إبراز تأثيرات الحياة التي يعيشها كلّ فنّان على أسلوب فنّه.

وتناولت المتدخلة مفهوم الجسد الهجين في الرسم والنحت وعلاقته بجماليّة القبح والشيطنة، واستعرضت مجموعة صور لأهم أعمال الفنانين أين كان الألم والعنف التصويري المحفّزين الرئيسيين للممارسة التشكيليّة. لقد جمّعت دي سنفال دمى عملاقة وقدمت منحوتات مركّبة متأثّرة بطفولتها المبعثرة وأنثويّتها المستهدفة. أما بيكون الذي لُقّب بفنّان الرعب فقد كرّس فنّه لتعرية الوجود والوجوه كما يراها هو، لقد دأب على تصوير تشوّهات البشر الداخليّة وتحريف الصور الإنسانية ليقدّمها في شكلها "اللّحميّ" الدامي، أليس هو القائل "لسنا سوى قطع من اللحم النيئ".

رواية عن مسوخية الحرب
رواية عن مسوخية الحرب

لقد اتخذ مفهوم "تهجين" الجسد منذ القدم صورا أسطوريّة وعجائبيّة ارتبطت بالعلاقات التي أَوْجدها الإنسان مع الإله والطبيعة ومع نتاجه الأخلاقي المحدّد بين الخير والشرّ. كانت رغبة الإنسان في المبالغة والتضخيم لكلّ ما هو واقعي هي المحفّز لتقديم تاريخ فنيّ خياليّ، فنجد رسومات الكهوف القديمة ومنمنمات المؤلفات المصوّرة ومحفورات المعابد ومنحوتات الآلهة وأبطال الملاحم والأساطير، حيث صُوّرت أجساد آدميّة عجيبة تتراوح بين هيئة الوحش والمسخ والملائكة والحيوانات العجيبة والأسطورية، بالإضافة إلى كلّ تلك اللّوحات والمنحوتات التي صوّرت تاريخا كاملا لعظمة التصوير المثاليّ. لقد قُدّم المشهد في التصوّر الكلاسيكي في شكل يؤطر الواقع ويعظّمه فـ"ليوناردو دا فينشي، يمتلك عالم ميكروسكوبي، يمكنه من تصوّر كائنات غولية وحشرات" قدسية متعالية لا نرى فيها العريّ الفاضح إنما الجمالية الإلهية التي تستحق التبجيل. 

أما في الفنّ التشكيليّ الحديث والمعاصر فقد ارتبط مصطلح التهجين الجسماني أو الجسدي بابتداع التقنيات والأفكار الغريبة عبر الاعتماد على مفاهيم تشكيليّة وبصريّة حديثة كالتراكب والتجميع والاختلاف والاستنساخ والتحريف والتشويه والتحوير والاختراق والاستعادة والبدعة والاختزال والتكثيف والاستفزاز وغيرها..

اتسعت مجالات البحث في الجسد الهجين باتساع الثورات وانتشار الحروب واكتشاف ثقافات متلوّنة، بدليل الأجساد الصارخة والمحرّفة التي رسمها بابلو بيكاسو، أو الوحوش الإيروسيّة المركّبة التي صوّرها فنانو السورياليّة والتعبيريّة والتشخيص الحرّ بدءا بمبولة مارسال ديشامب ومسوخ سالفادور دالي وروني ماغريت وماكس ارنست والتنصيبات المفزعة لروشنبارغ، وصولا إلى فنّ الجسد والفنّ المشهدي أين يصبح الجسد مجرّد أداة للعبور إلى المعنى المطلق، أو كما يعرّفه الباحث السوري محمود ابراهيم بـ"جماليّة الشرّ"، تلك الجماليّة التي ترتكز على مبدأ الهدم والإنشاء، أو كما يقول نيتشه "على المبدع أن يهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه، ذلك أنّ أعظم الشرّ يبدو جزءا من أعظم الخير".

يكمن الشرّ في كلّ التفاصيل الحياتيّة واليوميّة للبشر، في الكلمات والإيحاءات والمشاعر والحركات، وفي المتعة والكذب والحزن والسخط والضحك. ويتحمّل الجسد كلّ ذلك بوصفه الشرّ اللّحميّ فينا، ذلك الفاني والغريب، المغاير والمتغاير، وهو المدهش في بعض حالاته والمحيّر في بقيته. بدليل ما قدّمته الفنّانة الفرنسيّة "أورلون" في مسخها الذاتيّ ومن خلال تحويل جسدها بالذات إلى صورة غير مستحبّة عبر استدعاء صور الجمال المثاليّ مجتمعة. إذ يحملنا الجسد دائما إلى الذاكرة الجمعية ويفصلنا عنها أحيانا أخرى متقطعا من "ذواتنا" ومن غيريّتنا، لا يطال من الواقعية سوى تفاصيلها المثيرة والمغرية ولا يرجو من الانحراف والتحوير سوى الاصطدام بهذه الواقعية، وإحداث صدمة بصرية ومرجعية.

لقد ساعدت الفوتوغرافيا الجَسَد على البحث في الجسد وعما يمكن أن يغطّيه، فتحوّل الغطاء إلى جسم يخفي المعالم ويُعرّي أسوء ما في الجسد من عريّ مكشوف أو ما يسمى بـ"الغزو البصري"، الذي يتناوب باستمرار ليبلور ثقافة جسدية بطلها الجسد الأنثوي الذي هو نفسه ثقافة "مُثَغرَنة" من قبل الثقافة الذكرية. وبفضل الفوتوغرافيا يشبع المصور العالمي بيار مولينيي خيالاته الجنسية، ويختلق جسدا وهوية جديدين. عبر التحريف، التمويه، التقطيع والتلصيق، المجاورة والتحايل التصويري، انه يصور نفسه كمخلوق هجين ومخنث، رجل-امرأة في نفس الجسد وبنفس الروح، يقدم وجوها ذاتية بالأبيض والأسود تنم عن ميولاته الايروسية والتصويرية والسياسية في كلمات تعبر عن التركيبة الحياتية التي كرّسها لأجل الايروس الهدام  يقول "لقد ولدت رجلا-عاهرة". تماما كالمصوّرة أنات ماسنجر التي هجّنت صور جسدها عن قصديّة مطلقة، تقول "إنني ناشرة للوهم، إنني بائعة أحلام مفزعة، وناشرة هذيان عنكبوتي. أنا المخادعة، مخادعة الصور الفوتوغرافية المطلية من جديد، ومخادعة الصور المكبرة، وعدسات التشويه. إنني الكاذبة، المنبئة بالهواجس المزيفة، الذكريات المريبة، أنا مروضة الصراطين الورقية".

Thumbnail