فرانز كافكا يبوح بأسرار عبقريته على أريكة التحليل النفسي

رغم مرور أكثر من مئة عام على رحيله، مازال الكاتب التشيكي فرانز كافكا يثير الاهتمام للكتابة عنه، إذ أثّرت أعماله في الأدب العالمي من شرق الأرض إلى غربها، لكن هذا النجاح الكبير الذي تحقق له بعد رحيله لا يخفي ما واجهه الكاتب في حياته من تقلبات واضطرابات، ربما هي ما قادته إلى استكشاف خبايا النفس البشرية بتلك الجرأة.
ظل فرانز كافكا (1883 – 1924) أحد أكثر الكتاب غموضا وتعقيدا نفسيا في الأدب الحديث. قدمت أعماله، مثل “المسخ” و”المحاكمة” و”القلعة”، إلى جانب مراسلاته ومذكراته الواسعة، رؤى عميقة حول نفسيته المعذبة.
لتفسير الحالة النفسية لكافكا، ينبغي النظر في عدة أبعاد أساسية: علاقته المتوترة بالسلطة، شعوره بالاغتراب الوجودي، تصوره الذاتي ومخاوفه، صراعه مع المرض، ومواقفه تجاه الحب والجنس. ومن خلال دراسة هذه الجوانب، يمكننا إعادة بناء صورة تحليلية نفسية لرجل شكلته صراعاته الداخلية ومخاوفه وهواجسه الأدبية.
السلطة والاغتراب
أولا نذكر علاقة كافكا بالسلطة من خلال النموذج الأبوي وبنى القوة. ويعد التوتر أمام الشخصيات السلطوية أحد الموضوعات النفسية المهيمنة في أعمال كافكا، ويظهر ذلك بشكل رئيسي في علاقته المضطربة بوالده، هيرمان كافكا. ويتجلى هذا التوتر في أعماله من خلال شخصيات السلطة القمعية.
في “المحاكمة”، يجد البطل جوزيف ك. نفسه عالقا في نظام قانوني كالمتاهة، مما يعكس إحساس كافكا بالعجز أمام والده. وبالمثل، في "القلعة"، يصارع البطل بيروقراطية غامضة تبدو بعيدة المنال وغير مفهومة. فمن منظور فرويدي، يمكن اعتبار ذلك انعكاسا لصراع أوديبي، حيث يتأرجح كافكا بين الرغبة المكبوتة في التمرد على السلطة الأبوية والشعور الداخلي بالذنب والخضوع. وتتحول هذه الصراعات الشخصية إلى استعارات للسلطة البيروقراطية والإلهية، مبرزا الأسر الوجودي للفرد.
ثانيا الاغتراب والعبث، فقلق كافكا وجودي. والاغتراب من المحاور النفسية الأساسية في أعمال كافكا، حيث يعكس إحساسه الشخصي بالغربة عن العالم. وكان في موقع هامشي داخل المجتمع، كيهودي ناطق بالألمانية في براغ، غير مقبول بالكامل من القوميين التشيك ولا مندمجا تماما في الأوساط الثقافية الألمانية. ويتجذر هذا الشعور بالغربة في كتاباته.
◙ كافكا عانى من صورة ذاتية مشحونة بالقلق واحتقار الذات والشعور العارم بعدم الكفاءة وتكشف رسائله عن نزعاته العصابية العميقة
وتجسد رواية “المسخ” هذا الموضوع بوضوح. فبمجرد أن يتحول غريغور سامسا إلى حشرة، ينبذه أفراد عائلته حتى يموت وحيدا. ويرمز هذا التحول إلى نظرة كافكا لنفسه ككائن مشوه ومنبوذ اجتماعيا.
في “المحاكمة”، يدان جوزيف ك. دون أن يفهم التهم الموجهة إليه، ما يعكس عبثية الوجود وغياب السيطرة على المصير. تعكس هذه السرديات الهواجس الوجودية والمفاهيم التي طورها لاحقا سارتر وكامو، حيث يعيش أبطال كافكا في عالم غير مكترث بمعاناتهم، إن لم يكن معاديا لهم. كما تكشف رسائله عن مشاعر مماثلة من الاغتراب، حيث يصف نفسه بأنه كائن “غير ملائم” غير قادر على الانتماء.
أما التصور الذاتي والقلق فيثبت هشاشة الأنا عند كافكا. فلقد عانى كافكا من صورة ذاتية مشحونة بالقلق واحتقار الذات والشعور العارم بعدم الكفاءة. وتكشف رسائله، خصوصا إلى فيليس باور وميلينا وماكس برود، عن نزعاته العصابية العميقة وميوله التحقيرية تجاه نفسه. فكان كثيرا ما يصف نفسه بالضعف والمرض والعجز عن تلبية المتطلبات الاجتماعية مثل الزواج أو النجاح المهني.
من منظور التحليل النفسي، أظهر كافكا سمات شخصية قلقة وتجنبية. كان ناقدا شديدا لنفسه، يرى ذاته غير جديرة بالحب أو النجاح. وأدت مخاوفه من الفشل والإذلال إلى تردد شديد، تجلى في عدم قدرته على الالتزام بالزواج من فيليس باور رغم خطوبتهما المتكررة. ويظهر هذا في “المحاكمة”، حيث يعكس استسلام جوزيف ك. السلبي لمصيره خضوع كافكا الطوعي لمعاناته الذاتية.
التحليل النفسي
لعبت معاناة كافكا من المرض، وخاصة السل، دورا أساسيا في تشكيل نفسيته وموضوعاته الأدبية. فبعد تشخيصه عام 1917، ازدادت هواجسه تجاه الفناء والذنب والهشاشة الجسدية. وفي “المسخ”، يعكس التحول الجسدي البشع لغريغور سامسا وموته البطيء مخاوف كافكا بشأن جسده المتدهور.
وتظهر رسائله إلى ميلينا انشغاله الدائم بضعفه الجسدي وخوفه من العدوى، مما يعزز ميله إلى رؤية الجسد كمصدر للألم والمعاناة. ويتماشى هذا مع قراءة تحليلية نفسية ترى في الجسد رمزا للسجن الوجودي. ويعكس خوفُه من الحميمية الجسدية والمرض قلقا أعمق تجاه القوى غير القابلة للتحكم التي تحكم الحياة والموت.
أما علاقاته العاطفية فقد كانت محفوفة بالقلق، متأرجحة بين الشوق العميق والخوف من الالتزام. وتكشف رسائله إلى فيليس باور عن ازدواجية مشاعره تجاه الزواج. فمن ناحية، كان يتوق إلى القرب والارتباط؛ ومن ناحية أخرى، كان ينفر من فكرة الوقوع في فخ الحياة الزوجية. ويظهر هذا التردد في تواصله المتكرر والوسواسي عبر الرسائل، حيث يمزج بين المثالية والابتعاد عن شريكته.
◙ الكتابة يصفها كافكا بأنها الوسيلة الوحيدة التي يستطيع من خلالها أن يوجد حقا، لكنه كان يخشى تبعاتها
كما شكلت المسائل الجنسية مصدر قلق آخر لكافكا. وتشير بعض مذكراته إلى مشاعر الخجل والذنب المرتبطة بالرغبة الجنسية. ورغم ارتياده لبعض بيوت الدعارة، إلا أن الجنس في أعماله غالبا ما يصور كشيء مثير للاضطراب أو مزعج. ففي “المحاكمة”، تظهر النساء كمغريات ولكن في الوقت نفسه كمصدر للخطر، ما يعكس صراعه الداخلي بين الانجذاب والخوف من التورط الجنسي.
من منظور فرويدي، يمكن تفسير ذلك بأنه توترات نفسية جنسية غير محلولة، ربما مرتبطة بصراعاته الأبوية وتربيته الدينية. تحول كتاباته هذه الهواجس إلى سرديات رمزية وسريالية، حيث تؤدي الحميمية غالبا إلى الإذلال أو العقاب أو اليأس الوجودي.
كانت الكتابة بالنسبة إلى كافكا، ملاذا وعذابا في آن واحد. كان يصفها بأنها الوسيلة الوحيدة التي يستطيع من خلالها أن يوجد حقا، لكنه كان يخشى أيضا تبعاتها. قادته نزعاته الكمالية إلى الرقابة الذاتية والإحباط العميق. ففي مذكراته، يعبر عن عجزه عن الكتابة كما يرغب، كاشفا عن حاجته الماسة إلى العزلة ليبدع.
وتمثل أعماله تجسيدا لصراعاته الداخلية. وتقدم “المحاكمة” و”القلعة” أبطالا يسعون للفهم في عالم غير عقلاني، ما يعكس بحث كافكا الدائم عن المعنى. وكانت الكتابة وسيلته للتعامل مع التوتر بين الرغبة والخوف، والسيطرة والعجز. لقد كانت، في جوهرها، وسيلته الأساسية للبقاء النفسي.
يكشف التحليل النفسي لكافكا عن رجل ممزق بالتناقضات الداخلية؛ يتوق إلى الارتباط لكنه يخشى الحميمية، يطمح إلى النجاح لكنه يخشى الفشل، يبحث عن النظام لكنه يرى الفوضى. فلا يمكن اعتبار أعماله مجرد روائع أدبية فقط؛ بل هي دراسات نفسية معقدة تستكشف أعمق مخاوف الإنسان.
من منظور التحليل النفسي، تقع العصابيات والقلق والهواجس الوجودية في قلب إبداع كافكا. إنه يحول معاناته الشخصية إلى نماذج عالمية عن الاغتراب والشعور بالذنب وعبثية الوجود. من خلال رسائله وأعماله، نستطيع أن نرى عقل كاتب كان شديد التأمل والتألم والوعي الذاتي، رجلا امتزجت حياته وفنه في متاهة من صراعاته النفسية.
