فداء اسباعي لـ"العرب": "الشامبري" فيلم صامت يغوص في أعماق النفس البشرية

السينما الصامتة في عصرنا الذي يتكلم فيه الجميع واحدة من التجارب الدقيقة التي يصعب على المخرجين الشباب خوضها، لكن فداء اسباعي لم يتردد في القيام بذلك عبر فيلمه "الشامبري" الذي حصد جوائز مهمة لقدرته على تصوير الصراعات النفسية العميقة التي يعيشها الإنسان دون الاعتماد على النص المنطوق.
الرباط - فاز الفيلم المغربي “الشامبري” للمخرج فداء اسباعي بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان “سحر” الدولي للأفلام القصيرة في مانشستر بالمملكة المتحدة، كما حصل على جائزة أحسن فيلم في المهرجان الوطني للفيلم القصير ببرشيد المغرب. الفيلم يروي قصة شاب يعيش في غرفة غريبة وغير ملائمة للعيش الكريم، محاولا مواجهة الإزعاج المستمر القادم من الخارج، حتى يغيره شيء يقدمه له أشخاص غرباء ويدخله في رحلة مليئة بالتناقضات والمشاكل.
وأوضح المخرج المغربي في حوار مع “العرب” أن الفيلم “لم يكن وليد لحظة معينة أو تجربة فردية بعينها بل كان حصيلة تأمل طويل في طبيعة النفس البشرية وما يمكن أن تعيشه من لحظات عزلة أو اضطراب أو مواجهة مع القوى الخارجية التي قد تكون أكبر من قدرتها على الفهم أو التحكم، إذ استوحيت الفكرة من مشاهدتي المستمرة للصراعات البشرية في الحياة اليومية سواء كانت تلك الصراعات مرتبطة بضغوط اجتماعية أو اقتصادية أو حتى وجودية.”
وتابع “لقد أردت أن أطرح سؤالا بسيطا لكنه عميق في الوقت ذاته: ماذا يحدث عندما يجد الإنسان نفسه وحيدا في مواجهة قوة غامضة تتحكم في حياته؟ يمكن القول إن الفكرة قريبة من التجارب النفسية التي قد يعيشها أي شخص عندما يواجه مواقف يضطر فيها إلى إعادة التفكير في ذاته وعلاقته بالعالم الخارجي، بالتالي فإن الفيلم هو محاولة لاستكشاف تعقيدات الإنسان النفسية من خلال عدسة سينمائية مبتكرة.”
ويقول المخرج الشاب “عنوان الفيلم الأصلي هو ‘الشامبري’، وهي كلمة دارجة مغربية خصوصا في شمال المغرب ترمز إلى الزنزانة، إذن الغرفة ليست مجرد مساحة صغيرة يعيش فيها البطل بل هي تعبير عن الزنزانة الداخلية التي يحملها كل إنسان داخله، وهي انعكاس للعزلة النفسية ومسرح للتحولات التي يمكن أن تحدث داخل النفس البشرية نتيجة ممارسات أو ضغوط خارجية.”
ويعتبر اسباعي أن هذا الفيلم “كان تحديا حقيقيا. حاولت أن أخلق عالما داخل غرفة صغيرة لا نخرج من داخلها طوال الفيلم، وهذا ما يمكن أن يجعل المشاهد يفقد اهتمامه إذا لم يكن هناك تنوع في العناصر البصرية أو تطور في الأحداث. ركزت على خلق إيقاع بصري وسردي متوازن يجعل الغرفة تبدو وكأنها شخصية حية بحد ذاتها ويدفع إلى الإحساس بالتغير المستمر رغم الجمود الظاهري. كل عنصر داخل الغرفة تم اختياره بعناية ليحمل معنى أو رمزية معينة، فالألوان والإضاءة وحتى الظلال كانت كلها أدوات أساسية في خلق أجواء الغموض والتوتر، كما اعتمدت على أداء الممثل الرئيسي مروان بن العربي الذي كان عليه أن يحمل عبء نقل المشاعر والصراعات الداخلية دون حوار، وهذه الديناميكية بين عناصر الصورة وأداء الممثل كانت المفتاح لإبقاء المشاهدين مشدودين طوال زمن الفيلم.”
ويضيف “كما أن العنصر الغريب الذي يدخل حياة البطل هو الفراش الذي يتم إحضاره له داخل الغرفة، قد يبدو هذا العنصر بسيطا أو حتى عاديا لكنه يمثل التحول الرئيسي في مسار القصة، فقبل إدخال الفراش للغرفة كان البطل يعيش في حالة من التعايش السلبي مع ظروفه الصعبة، ينام على حصيرة متواضعة ولا يتوقع أي تغيير، لكن مع دخول الفراش تبدأ الأحداث في أخذ منحى مختلف.”
◙ تعلمت كيف أحكي الكثير بالقليل ففي الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة يجب أن تكون كل لقطة مليئة بالمعنى
ويوضح “الفراش الذي يفترض أن يكون رمزا للراحة والاستقرار، يتحول إلى مصدر للتوتر والارتباك، إذ يبدأ الغرباء الذين أدخلوا الفراش بالتدخل في حياة البطل، حيث يدخلون الغرفة بشكل متكرر ليقوموا بتمزيق الفراش بطريقة فوضوية وغير مبررة، وهذا الفعل الغريب يجبر البطل على مواجهة مشاعر جديدة من الغضب والحيرة وربما الرغبة في المقاومة، فالفراش استعارة لكل ما يفرض على الإنسان بشكل غير متوقع، وكيف أن التغيرات قد تدفعه إلى إعادة النظر في ذاته وعلاقته بما حوله.”
ويفسر المخرج كيف تعامل مع مشاعر التناقض والارتياب التي يعيشها بطل الفيلم مبينا “كون الفيلم خال من الحوارات، كان التحدي الأكبر هو نقل المشاعر والأفكار من خلال تعبيرات الوجه ولغة الجسد فقط، إذ تطلب الأمر العمل بشكل مكثف مع الممثلين وخاصة مروان بن العربي للوصول إلى أداء طبيعي وغير مبالغ فيه، ولكنه في نفس الوقت قادر على إيصال أعمق الأحاسيس. اعتمدت على تدريبات خاصة تهدف إلى جعل الممثل يتفاعل بشكل عضوي مع المساحة المحيطة به، كما ركزنا على التفاصيل الدقيقة، مثل نظرة العين أو حركة اليد لتكون وسيلة لعرض الصراعات الداخلية. وفي الوقت نفسه حرصت على أن تكون الانفعالات متناسبة مع الإيقاع العام للفيلم بحيث لا تصبح مبالغا فيها أو مفتعلة، وقد نجح مروان بن العربي في هذه المهمة.”
وعن تجربته السينمائية بصفة عامة، يقول المخرج لـ”العرب” “تعلمت كيف أحكي الكثير بالقليل، ففي الأفلام الوثائقية كما في الأفلام الروائية القصيرة يجب أن تكون كل لقطة مليئة بالمعنى، لأنك غالبا تعمل مع موارد محدودة ووقت قصير لإيصال فكرتك، وبالتالي فإنك تكون مضطرا للتكثيف واختيار ما هو ضروري فقط. وظفت في الفيلم تلك الخبرة لتطوير فيلم يعتمد على اقتصاد العناصر البصرية والسردية مع الحرص على إبقائها قوية وغنية، فكل تفصيلة من اختيار الألوان إلى تحركات الكاميرا كانت مدروسة بعناية لضمان إيصال الرسالة بأقل عدد ممكن من العناصر.”
ويكشف فداء اسباعي كيف ساهم التعاون مع فريق العمل في إنجاح الفيلم بالقول “كان الممثل مروان بن العربي أحد الأعمدة الأساسية التي قام عليها هذا الفيلم بلا شك. تعاوني معه لم يكن مجرد علاقة بين مخرج وممثل، بل كان نوعا من التفاهم المتبادل والتعاون الفني الذي سمح للفيلم أن ينمو ويأخذ شكله النهائي. فقد كنا نتواصل لعدة أشهر قبل بدء التصوير لكي ندرس الشخصية. إنه ممثل يتمتع بحساسية خاصة وقدرة على فهم أبعاد الشخصية النفسية، وهذا ما جعله يضفي على الدور كل هذا العمق.”
ويشير “لقد عرفت مروان منذ فترة طويلة، حيث تشاركنا تجارب سابقة في المسرح، وهذا ساعدني في تنظيف موهبته بشكل مثالي. خلال التصوير، كان مروان منفتحا على التجربة ومستعدا لتجسيد شخصية مركبة تحتاج إلى أداء متوازن. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكنني أن أغفل دور فريق الإنتاج، وخاصة المنتج أحمد كشيكش، الذي آمن بالفكرة ودعم المشروع بقوة منذ بدايته. كل هذه العوامل جعلت من الفيلم ما هو عليه الآن، وأنا فخور جدا بهذه التجربة مع كل هذا الفريق.”
وتعاون المخرج المغربي مع الملحن الأميركي كوبر لي سميث الذي يصفه بأنه “كان إضافة رائعة للفيلم، برغم أننا عملنا عن بعد، إلا أن التواصل كان سلسا ومنتجا. وما ميز كوبر هو قدرته على فهم الأجواء النفسية للفيلم حيث استطاع أن يترجم المشاعر والتوترات الداخلية إلى ألحان وأصوات، وتعاوننا بدأ عندما قدمه لي مروان بن العربي الذي يعيش في الولايات المتحدة. كوبر الذي يعمل مع المخرجين المستقلين في الولايات المتحدة كان يطمح لخوض تجربة جديدة تكون مختلفة وذات طابع دولي.”
وعن اختيارهم للموسيقي يقول “اخترنا أن تكون الموسيقى ناعمة لكنها مشحونة بالتوتر، بحيث تعزز الجو النفسي دون أن تكون بارزة أو مشتتة. عمل كوبر على تقديم مقاطع موسيقية تعكس التحولات الدرامية في الفيلم معتمدا على أدوات موسيقية غير تقليدية لخلق شعور بعدم الراحة والغموض. النتيجة النهائية كانت رائعة.”
ويعتقد المخرج أن “نجاح الفيلم يكمن في بساطته الظاهرة وتعقيده الداخلي، فالعمل ليس فيلما يقدم إجابات جاهزة أو سردا خطيا واضحا، بل هو دعوة للمشاهد ليصبح شريكا في فك شفرة الأحداث واستكشاف دلالاتها. هذه الطريقة تجعل الجمهور أكثر انخراطا واندماجا مع العمل، حيث يشعرون أن الفيلم يخاطبهم بشكل شخص.”
ويوضح أن “فكرة الفيلم يمكن لأي شخص أن يتعاطف معها بغض النظر عن ثقافته أو خلفيته، والنقاد غالبا ما يبحثون عن أفلام تحمل عمقا فكريا وتقدم تجربة سينمائية مختلفة، وأعتقد أن هذا ما وجده الكثيرون في الإخراج الذي يركز على التفاصيل، واستخدام الموسيقى والمؤثرات الصوتية لتعزيز الأجواء بشكل سلس وغير مبالغ فيه، بالإضافة إلى الأداء القوي لمروان بن العربي، كلها عوامل أظن أنها ساهمت في ترك انطباع قوي لدى كل من شاهد العمل.”
وفي تعليق على الجوائز التي فاز بها، يقول اسباعي لـ”العرب” إن الجوائز “هي شهادة تقدير للعمل الشاق الذي قدمه الجميع، بالنسبة لي هي ليست مجرد تقدير شخصي بل هي اعتراف جماعي بجهود الفريق. إنها دليل على أن العمل الصادق والمبتكر يمكن أن يصل إلى الجمهور ويترك أثرا، بغض النظر عن الميزانية أو الموارد المحدودة، فهذه الجوائز كانت مصدر إلهام كبير بالنسبة لي وهي تزيدني إيمانا بأن السينما يمكن أن تترك بصمة حقيقية في نفوس المشاهدين، وبالطبع هذا يشجعني على مواصلة العمل على مشاريع جديدة، وأن أستمر في تقديم أفلام تتحدى التوقعات وتستكشف مواضيع عميقة.”
ويضيف أن “هناك مشاريع جديدة قيد التطوير، وهي امتداد لرؤية فنية أطمح من خلالها إلى كسر حدود السرد السينمائي. أعمل حاليا على تطوير أفلام قصيرة وطويلة لا ينقصها سوى منتج يحتضنها، وسيظل التركيز على المواضيع النفسية والاجتماعية حاضرا، ولكن بطرق وقصص مختلفة.”