فخر الصناعة الوطنية

السبت 2015/12/05

فاجأتني صديقتي عبر مكالمة هاتفية روتينية نقلتها ذبذبات الأثير اللاسلكية، من دولة مجاورة، بسؤال مباغت “ماذا ستطبخين للأولاد هذا اليوم؟”. بدا الأمر وكأنه نسخة مكررة من حديث هاتفي دار قبل ثلاثين عاما بين والدتي رحمها الله وصديقتها (والدة صديقتي هذه)، لكن الفرق كان في نسيج المحادثة، فالحوار القديم بين الأمهات كان يدور حول أسماء شهداء الحرب العراقية الإيرانية الذين كانت نعوشهم تتنقل بخفة بين شوارع حيّنا القديم، وتحط رحالها كل يوم أمام عتبة دار فتخبو شموعها وتذبل وجوه أهلها إلى الأبد.

واليوم وبعد مرور هذه العقود الطويلة، يتكرر حديث مشابه عن الموت الجديد في العراق الذي تفصلنا عنه مسافات طويلة وذاكرة مشوشة. أما خاتمة حديثنا اليومي هذا فلا تزيد عن تداول روتيني خالص على شكل أسئلة “ركيكة” مثل، “هل ذهبت إلى التسوق في الجمعة السوداء”، أو “هل ترتدين النظارات الطبية طوال اليوم؟”، لكن الحيّز الأخير من المكالمة الصباحية محجوز دوما للسؤال الأكثر بلادة “ماذا ستطبخين للأولاد هذا اليوم؟”.

ينصح اختصاصيو التغذية الأمهات بضرورة وضع خطة للوجبات الرئيسة خلال أسبوع يراعى فيها خلق توازن في المكونات الغذائية التي تحتويها هذه الوجبات لتجعل منها أكلات صحية وشهية في الوقت ذاته، لكنهم لا يقدمون بالطبع نصائح كافية لمواجهة تقلب أمزجة الأطفال التي لا تستقر على رأي، ولهذا فإن محاولة إرضاء أذواق جميع أهل الدار يتطلب في أغلب الأحيان المكوث بالمطبخ ساعات طويلة في محاولة مستميتة لخلق عدة أطباق يومية، مأكولة ومذمومة تنتهي ثلاثة أرباع مكوناتها في حاوية القمامة.

وهذه المهمة المستحيلة تمثل جزءا بسيطا من مهام مستحيلة أخرى تقع على عاتق الأمهات، تأتي على شكل أعمال تنظيف المنزل ومتابعة دروس الصغار ومراقبة سلوكهم و”التصنت” على مواقع الإنترنت التي يدسّون أنوفهم، سهوا، في أروقتها، إضافة إلى متابعة المشاوير اليومية المكوكية من وإلى المدرسة، فالسوق، فمركز البريد ثم طبيب الأسنان، الذي تذرف عند طاولته ما يتيسّر من دموع الصغار وصراخهم. فماذا تبقى من ساعات نهار مهدور وليل مسفوح على بلاط مسؤوليات لا تنتهي؟

تتحول هذه المسؤوليات إلى أبواب مفتوحة على كوابيس وإخفاقات لا تنتهي، إذا كانت الأم عاملة فتبدو ساعات اليوم القصيرة في نظرها قاطرة من أسئلة لا تنتهي، ومع ذلك يبقى السؤال الأزلي معلقا على الدوام بين لحظة الاستيقاظ ولحظة النوم، “ترى، ماذا سأطبخ للصغار هذا اليوم؟”. هذه المسؤوليات نفسها قد تبدو نكتة سمجة للأم التي تعيش في وطن يعشق الحروب، فيتكون السؤال في قلبها المكلوم كالتالي، “لا يوجد طعام في البيت، فمن أين سيأكل الصغار هذا اليوم؟” أو “هل أشتري بالنقود المتبقية طعاما أم خيمة للشتاء؟”.

وبعد ذلك، يأتي رجل متوسط الوسامة واثق الخطوة ذهبي الأنامل، فيجلس إلى كمبيوتره العامر مع كوب الشاي الساخن في غرفة مشبعة بمؤلفات من القرون الوسطى المتأخرة، ليكتب “أن المرأة لا تصلح للأعمال التي تتطلب جهدا ذهنيا معقدا بسبب قصور في تركيبها النفسي والفسلجي!”.وبهذا التصريح الخطير، سيحتكر هو وشلة من أصدقائه (فخر الصناعة الوطنية) المهام الجسيمة للعمل الإبداعي والثوري والسياسي. إلا ما ندر، تغيب ملامح المرأة عن مسرح السياسة والتنابز بالأسلحة الثقيلة، فتسقط بصورة اختيارية من قائمة مجرمي الحروب.

وباستثناء بعض البرلمانيات، فإن أغلب اللصوص هم من جنس الرجال وأغلب المشرّعين (القانونيين) الذين يزيّنون الحياة الدنيا للمرأة وكأنها إقامة في قبر مؤقت، هم من الرجال، رؤساء العشائر الذين يتبادلون الشابات الجميلات في صفقات زواج مشبوهة لحلّ الخلافات والتستّر على قتلة أغبياء هم من الرجال، أما أعضاء الهيئة السياسية المبجلة الذين يسهرون على راحة حفاري القبور، فيصدرون لمقابرهم بانتظام أحلاما بهيئة شباب في عمر الورد، فهم بالتأكيد من الرجال.

صحيح، نسيت أن أسأل “ماذا سنطبخ اليوم؟”.

21