فخري صالح: شعر درويش استطاع أن يوقظ الضمير العالمي

محمود درويش الشاعر العربي الذي حقق المعادلة الصعبة.
السبت 2022/03/26
درويش اشتغل على معادلته بطريقة مركبة أكثر

لا اختلاف على أن تجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش من أبرز التجارب الشعرية على المستوى العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تمكن من تحقيق تلك المعادلة الصعبة بين النص النخبوي والجماهيرية الكبيرة، وهو ما لم يأت صدفة كما تبيّنه مختارات جديدة للشاعر.

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة” عنوان المختارات التي اختارها وقدم لها بدراسة مطولة الناقد فخري صالح، قصائد من جميع دواوين الشاعر الفلسطيني محمود درويش، “بطاقة هوية”، “سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا”، “عاشق من فلسطين”، “يوميات جرح فلسطيني”، “أحمد الزعتر”، “رحلة المتنبي إلى مصر”، “أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي”، “سقط الحصان عن القصيدة”، “طباق”، وكثير غير هذه القصائد من مجموعات درويش الشعرية بدءا من “أوراق الزيتون” حتى المجموعة الأخيرة التي نشرت بعد وفاته “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”.

المختارات، التي صدرت عن الدار الأهلية للنشر، لم تستثن أيا من مجموعات درويش، وقد أكد صالح أنها تشكل “إضاءة على تطوره الشعري، وتطور لغته وموضوعاته، وفكره، ورؤيته السياسية، وطريقة نظره إلى الشعر، وفهمه العميق للتحولات التي مرَّت بها تجارب الشعراء في العالم”.

مراحل شعرية

فخري صالح: في تقاطع الشعر العالي مع الذائقة التي تعاني من تشوُّهات، في استقبال الشعر وفهمه، أثبت درويش أن في الإمكان أن يكون الشعر عاليا وجماهيريّا في الآن نفسه

قال صالح في تقديمه للمختارات “احترمت رغبة درويش في عدم إدراج بعض كتاباته الشعرية، التي نشرها في كتب ضمت بعض كتاباته النثرية، وعلى رأسها مجموعته البديعة ‘أثر الفراشة‘ (التي ضمت شعرا ونثرا لا يقلُّ أهمية عمَّا ضمته مجموعاته الشعرية)، لأن رؤية الشاعر إلى شعره ضرورية لفهم سياق تطوره الشعري، وكذلك الفكري. وعلينا، لهذا السبب، ألا نعيد تركيب عمل الشاعر بأثر رجعي فارضين على شعره رؤية من الخارج، فقد أراد هو أن يحذف من عمله ما لا يريد إدراجه في أعماله الشعرية الكاملة، وضمَّ ما اعتقد أنه ينتمي إلى النثر وعوالمه إلى كتب تضمُّ نثره ومقالاته الفكرية والسياسية والوجدانية”.

وترك الناقد جانبا قصيدته الشهيرة “عابرون في كلام عابر” التي نشرها في كتاب من كتبه النثرية، كما تجاوز “خُطب الدكتاتور الموزونة”، التي نشرها في مجلة “اليوم السابع” الباريسية في ثمانينات القرن الماضي، لأنه نظر إليها بوصفها سخرية سوداء من واقع الاستبداد العربي المعاصر وانسداد أفق التغيير في العالم العربي. مبينا أنه بغضِّ النظر عن منظوره الشخصي، ورؤيته لهذا المنجز “الشعري” الذي أزاحه درويش من تجربته الشعرية، وضمَّه إلى نثره، أو أنه عدَّه مجرَّد مقالات لا تستحق حتى أن تنشر في كتبه النثرية، فإن الحفاظ على وحدة العالم التصوُّري والنظري للشعر، عند درويش، قد جرى احترامهما في هذه المختارات.

وأضاف صالح “ثمَّة في شعر محمود درويش علامات كبرى تدلُّ القارئ على تطور تجربته الشعرية، ونضوجه الثقافي والفكري والوجداني والسياسي، وعلى قدرته، كمبدع خلاق، على تحويل الفردي والشخصي، في حياته وحياة الفلسطينيين، إلى تجربة جماعية كبرى تضيء القضية الفلسطينية وتضعها في وجدان العرب المعاصرين، كما في ضمير العالم ووعيه. ففي رحلته من ‘سجِّل أنا عربي‘، التي كانت صرخته للتعبير عن الهُويَّة الفلسطينية – العربية التي سعت الحركة الصهيونية والدولة العبرية إلى محوها، إلى قصائده التي كتبها في أيامه الأخيرة، نعثر على منحنى صاعد، عموما، في هذه التجربة الشعرية الغنية التي أصبحت، سنة بعد سنة، دلالة ساطعة على اسم فلسطين ومأساتها ومقاومتها، وتحولها إلى قضية إنسانية تمثِّل أكبر عملية تزييف للوعي الغربي خاصة، والإنساني عامة”.

وأضاف أن شعر درويش استطاع أن ينبِّه الضمير العالمي إلى التراجيديا الفلسطينية، وينبه وعي البشر، من غير أصحاب المصالح، إلى عملية التطهير العرقي التي تعرَّض لها الفلسطينيون على أيدي معتنقي الفكر الصهيوني وأنصارهم في الغرب، لإحلال شعب محلَّ شعب وسرقة وطن الفلسطينيين وطردهم من الجغرافيا والتاريخ. وقد بدأ درويش تجربته من دائرته الأولى، ممثَّلة في تجربة العيش تحت الاحتلال الإسرائيلي في أرض 1948، منتقلا إلى دائرته العربية الأوسع، بعد خروجه من فلسطين، وواصلا في النهايات إلى الدائرة الثالثة، أي البعد العالمي الذي حظي به شعره الذي تُرجم إلى عشرات اللغات وجعله واحدا من كبار شعراء العالم.

وأكد الناقد أنه انطلاقا من هذا التصوُّر الذي لا يُغفِل المراحل الأولى في تجربة محمود درويش الشعرية، بنبرتها العالية أحيانا، وصيغتها المباشرة أحيانا أخرى، وتأثُّرها الواضح بما كان يتسرَّب إليه من شعر عربي ينتمي إلى مرحلة الخمسينات والستينات في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، اشتغلت على هذه المختارات، وفاضلت بين وضع هذه القصيدة أو تلك ضمن هذه المجموعة، لأسباب تتعلَّق بأهميتها التاريخية في شعر درويش أو كونها علامة كبرى من علامات شعره الأساسية.

وبين أنه على الرغم من أن درويش تمنى كثيرا لو أنه لم يُدرِج الكثيرَ من قصائده في مجموعاته الشعرية الأولى، وكان يقابل من يطالبه بقراءة بعض قصائده الأولى، وعلى رأسها “سجل أنا عربي”، بالضيق وعدم الرضى، فإن تلك القصائد التي صنعت شهرته الأولى، وجعلته ناطقا شعريا باسم فلسطين، ونقلته من دائرته الأولى إلى الدائرة العربية الأوسع، وجذبت إلى أمسياته الشعرية، بدءا من سبعينات القرن الماضي، الآلاف من السامعين وعشاق الشعر في العالم العربي، وفي بعض العواصم العالمية، تظلُّ جزءا مهمَّا من تطوره الشعري اللافت، وقدرته على هضم تجارب الشعر في العالم، وتمكُّنه في كثير من شعره الأخير أن يكتب قصائد في أهمية ما كتبه شعراء عالميون كبار في وزن فيدريكو غارسيا لوركا، ولويس أراغون، وبابلو نيرودا، ويانيس ريتسوس، ووليم بتلر ييتس، وآخرين من شعراء القرن العشرين البارزين.

معادلة مركبة

◙ المختارات تشكل إضاءة على تطوره الشعري، وتطور لغته وموضوعاته، وفكره، ورؤيته السياسية

في دراسته المطولة نسبيا قدم صالح إضاءاته، كاشفا عن الخيوط الأساسية التي تشكِّل نسيج هذه التجربة الدرويشيَّة الفذَّة. لافتا إلى أنه “شاعر حيّ مثله مثل أسلافه الكبار: أمرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وأبوتمَّام، والمتنبي، وأبوالعلاء المعري؛ وهو لا يقلُّ عنهم أهمية وتفردّا”.

ورأى أن درويش أعظم شاعر أنجبته فلسطين، وواحد من كبار الشعراء العرب المعاصرين. فقد عمل، على مدار سنوات عمره، على تطوير أدواته الشعرية، ما جعله يحتلُّ مكانة رفيعة في تاريخ القصيدة العربية في القرن العشرين. كما أنه استطاع، على النقيض من عدد من شعراء الحداثة العرب، أن يزاوج بين نخبويّة نصه الشعري والحضور الجماهيري الذي جعل عشرات الآلاف من محبي الشعر يتوافدون إلى قراءاته الشعرية في العواصم والمدن العربية. ولا يعود هذا الحضور الجماهيري إلى كونه فقط الناطقَ الشعري باسم فلسطين، منذ كتب سطوره الشعرية الشهيرة “سجّل أنا عربي”، فصار جمهوره يطالبه بقراءتها، حتى بعد أن باعد الزمن بين قصيدة “بطاقة هوية” وشاعرها الذي تطورت تجربته فعانق وعيُه الثقافي والشعري آفاقا جديدة قرّبته من شعراء العالم الذين عبّروا عن القضايا الإنسانية الكبرى.

إن هذا الحضور وتلك الشهرة والنجوميّة، التي تمتع بها، تعود إلى قدرته على جعل نصه الشعري يتمتع بطبقات متراكبة من المعنى، بعضُها قريب من أفهام الجمهور العام، الذي يعثر على فلسطين وصورها وهي تتخايَل في قصائد درويش، في الوقت الذي يسعى فيه الشاعر الخلاق إلى جعل فلسطين مجازا لعذابات الإنسانية ومجلى لمآزقها الوجودية.

وأشار صالح إلى أن درويش علامة أساسية في الشعر العربي المعاصر. فقبله كان الشعرُ العربيُّ شيئا وصار بعده شيئا مختلفا. فهو غيَّر الذائقة وأقنع قراءه وسامعيه بأن الشاعر يمكن أن يكون نجما جماهيريا دون أن يخاطب الغرائز أو يكرّر السائد والمعروف وما يحب الناس أن يسمعوه. لقد قاد قراءه إلى قمة الشعر فاتحا الآفاق واسعة لخيال السامعين والقراء.

وتابع “في تقاطع الشعر العالي مع الذائقة التي تعاني من تشوُّهات، في استقبال الشعر وفهمه، أثبت درويش أن في الإمكان أن يكون الشعر عاليا وجماهيريّا في الآن نفسه. لا أحد من الشعراء العرب في القرن العشرين استطاع أن يحلَّ هذه المعادلة المعقدة سوى محمود درويش. قبله كان محمد مهدي الجواهري آتيا من مخيّلة تراثية تعيد سبك الموروث الشعري العربي، الجاهلي والأموي والعباسي، بأنواع المديح والرثاء والهجاء فيه، لكنه ظل مقيما في الماضي، ولم يتعرَّض لرياح العصر سوى في الموضوعات التي تتصل بثورات العرب في النصف الأول من القرن الماضي. وقبله اقترب نزار قباني من الجماهير الغفيرة، التي تتكوّن من المراهقين والمراهقات والنساء والحالمين بالحب؛ ثم خالَطَ شعرَه السهلَ الممتنع بشيء من السياسة وهجاء السياسيين فلمع نجمه أكثر وصار جمهوره الواسع يهبُّ إليه من كل مكان”.

الشاعر زاوج بين نخبويّة نصه والحضور الجماهيري الذي جعل عشرات الآلاف من محبي الشعر يتوافدون إلى قراءاته

وأوضح الناقد أن درويش اشتغل على معادلته بطريقة مركبة أكثر؛ انطلق من الجرح الفلسطيني الذي ظلَّ ينزف منذ بدايات القرن العشرين وحتى هذه اللحظة. لكن بداياته تشكّلت في مهب رياح التغيير في الشعر العربي.

سنجد في شعره الأول آثار بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي، ونزار قباني، ثم أدونيس، وربما سعدي يوسف. لكن جماهيريته، التي تصاعدت في تقاطع السياسي والثقافي، وتمازج تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية مع تحولات الكتابة الشعرية في العالم، لم تمنعه من تطوير أدواته ومنجزه الشعريين. كانت غاية درويش أن يكتب شعرا يحكي عن الجرح الفلسطيني دون صخب؛ وكان حلمه أن يكتب شعرا صافيا لا ضجيج فيه ولا إيقاعات عالية. لكنه كان شاعرا لافتا حتى في تلك القصائد التي كان يطالبه جمهوره بقراءتها في أمسياته جميعها؛ وكان محمود يرشو الجمهور نازلا عند رغبات هذا الجمهور لكي يقرأ له ما يريد هو: قصائد كبيرة من مجموعات: هي أغنية هي أغنية، ورد أقل، أحد عشر كوكبا، لماذا تركت الحصان وحيدا، جدارية، كزهر اللوز أو أبعد، لا تعتذر عما فعلت، أثر الفراشة..إلخ.

وشدد صالح على أن موقع درويش على خارطة الشعر العربي يتمثّل في قدرته على تزويج الإيقاع للمعاني والتجارب الوجودية العميقة، في تلقيح هذا الشعر بغبار طلع الكتابات الشعرية العالمية المميزة؛ بشعر فيدريكو غارسيا لوركا ووليم بتلر ييتس وبابلو نيرودا ويانيس ريتسوس وغيرهم من الشعراء الكبار الذين تتألق قصائدهم في ذاكرة الشعر العالمي. ولأنه عرف كيف يطعّم شعره بشعرهم، ويزوّج التراجيديا الفلسطينية لتراجيديات البشرية وعذابات الإنسان في كل زمان ومكان، فقد أصبح، قبل وبعد رحيله، واحدا من شعراء العالم الكبار.

 

13