فتش عن التكنولوجيا

في عام 1865 وردت العبارة الشهيرة “فتش عن المرأة” في مسرحية للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما. وعن الفرنسيين أخذها الإنجليز وأبقوها على صياغتها الأصلية «Cherchez la femme» ويقصد بها أن المرأة هي مصدر البلاء كله.
اليوم والعالم يواجه البلاء، أستعير هذه العبارة وأقول “فتش عن التكنولوجيا”، فهي مصدر كل الشرور. وهي، كما يقول العرب “شرٌ وشر ما فيها أنه لا بد منها”.
ولكن، كيف تكون التكنولوجيا مصدرا للشرور، بعد أن كانت مصدرا للرخاء والازدهار؟
إن كنت تعيش في دولة نامية أنت حتما تعاني للحصول على حاجتك اليومية من المواد الغذائية. وهي إن وجدت، تعرض بأسعار مضاعفة للأسعار التي كانت عليها قبل عام واحد.
مشهد الباحثين عن سلع غذائية مثل الحليب، والزبدة، والدقيق، والزيت.. أصبح مألوفا في أكثر من دولة نامية. والغريب أن الجميع يتعامل مع هذه المشكلة على أنها ظاهرة مؤقتة ستختفي غدا أو بعد غد.
من سوء حظنا جميعا نحن سكان العالم النامي أن الظاهرة ليست مؤقتة، وأنها لن تختفي بعد يوم أو يومين أو شهر أو حتى سنة. الظاهرة هنا لتبقى وتتعمق. ويبدو أن الأمر قد أسقط من أيدينا، شعوبا وحكاما، وعلينا أن نتكيف للعيش مع الواقع الجديد.
تحاول أحزاب المعارضة أن تستغل ارتفاع الأسعار واختفاء سلع من المتاجر لتأليب الشارع على الحكام، لتفاجأ بسلبية شديدة تعجز عن تفسيرها. والسبب بسيط، الناس باتوا يعلمون أن الأزمة أكبر من الحكومات، وأكبر من الشعوب، وأن لا خيار أمامهم سوى شد الأحزمة.
اختفاء السلع وارتفاع أسعارها، ليس بفعل محتكر، هناك أسباب أكبر وأعمق للمشكلة.
منذ عامين فقط كنا نقول إن السبب هو جائحة كورونا وما رافقها من حجر وصعوبات في التنقل. رُفع الحجر، وفُتحت الحدود، وبقي شح المواد وبقي التضخم والغلاء.
اليوم، نقول إن السبب وراء التضخم وارتفاع الأسعار حماقة ارتكبها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزوه أوكرانيا. غدا أو بعد غد أو بعد عام وعامين ستضع الحرب أوزارها، ويبقى شح المواد الغذائية، ويبقى معه ارتفاع الأسعار. بل قد تتضاعف الأسعار.
المشكلة التي يواجهها العالم أكبر من كورونا، وأكبر من غزوة قام بها بوتين، ولها أسباب عديدة، منها تزايد السكان وظاهرة الاحتباس الحراري وما رافقها من ارتفاع في درجات الحرارة وجفاف وتصحر. ومنها أيضا العولمة التي وحّدت أسعار المواد السلع الرئيسية، وأكرهت حكومات الدول النامية على اختراع “دعم الأسعار” رأفة بشعوبها.
عدد سكان العالم لن يتناقص، بل هو مرشح للارتفاع، ما لم يتناقص بفعل الحروب والأوبئة. وإن نجحت الجهود التي تبذلها دول العالم للسيطرة على ارتفاع درجات الحرارة، فإنه من الصعب أن نراها تتراجع. والعولمة لم تعد خيارا بل قدرا لا يمكن الفكاك منه. حتى الصين والهند الأكبر تعدادا للسكان في العالم، لا تستطيعان غلق حدودهما.
هناك سبب آخر، تأثيره أعمق وإن كان غامضا مستترا، هو التكنولوجيا.
خلال عقدين فقط راكمت التكنولوجيا جبالا من الثروات. لا أحد يتحدث اليوم عن مليونير، أعدادهم أكبر من أن تعد أو تحصى. والمليونير في الحقيقة أقرب إلى الفقر منه إلى الثراء؛ المليون بالكاد يكفي لشراء سيارة فاخرة أو شقة متواضعة في أيّ عاصمة من عواصم العالم.
نحن اليوم نتحدث عن الملياردير، وقريبا وبفضل التكنولوجيا سنتحدث عن التريليونير.
منذ عشرين عاما فقط كنا نتحدث عن دولة عربية مثل تونس على أنها نموذج ناجح اقتصاديا، بل نموذج يستحق أن يحتذى. اليوم على تونس أن تعيش عاما كاملا بميزانية 20 مليار دولار، وعجز بقيمة 3 مليارات دولار.
وفي الوقت الذي تفاوضت فيه تونس على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.9 مليار دولار، تم بيع تويتر للملياردير أيلون ماسك بمبلغ 44 مليار دولار.
وأيلون ماسك (51 عاما) رجل أعمال كندي مولود في جنوب أفريقيا وحاصل على الجنسية الأميركية وتبلغ قيمة ثروته 320 مليار دولار.
مشكلة العالم ليست شح في الثروة، بل على العكس تماما، حجم الثروات في العالم اليوم خيالي، إذا ما قيس بحجم الثروات منذ نصف قرن.
العالم لا يعاني اليوم بسبب من شح النقود التي باتت بفضل التكنولوجيا جبالا متراكمة، بل يعاني من فائض الثروات.
التكنولوجيا التي ساهمت وتساهم يوميا بظهور العشرات من الأثرياء من أصحاب المليارات، لم تساهم حتى هذه اللحظة بحل أزمة الغذاء، كما أشبعونا وعودا.
حتى إن تمكنت التكنولوجيا من زيادة الإنتاج الغذائي، فإن هذا سيحدث في الدول التي تمتلك الثروات وتمتلك التكنولوجيا، بينما علينا نحن سكان الدول النامية الإبقاء على الأحزمة مشدودة.
مرت ثماني سنوات منذ أن اجتمع قادة العالم في نيويورك واتفقوا على مواجهة التحديات الفقر والجوع وعدم المساواة وتغير المناخ والصحة.
اليوم، بعد وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا وبمواجهة أزمة الغذاء والطاقة، يبدو الغرب أكثر تحفظا في تقديم المساعدات رافعا شعار: أنا ومن بعدي الطوفان. تاركا الدول النامية لتواجه مصيرها.. وأي مصير هو؟