فتاوى التقشف تعمق سخط الشارع المصري على الحكومة

ضاعف تركيز دار الإفتاء على مسألة الصبر على الفقر والرضا بالواقع ومحاولة تحمله، مخاوف شريحة واسعة من المصريين من أن الأوضاع الاقتصادية في البلاد تسير نحو التفاقم، ورأوا في هذه الفتاوى دعما لتوجهات الحكومة الاقتصادية التي باتت تمارس عليهم ضغوطا كبيرة.
القاهرة – أثارت فتاوى دينية رسمية صدرت قبل أيام ودعت الناس إلى التقشف والرضا والصبر جدلا سياسيا واجتماعيا، وأعادت طرح تساؤلات كثيرة حول توظيف الدين لخدمة الحكومة المصرية التي تخوض حربا شرسة ضد استغلال التنظيمات الإسلامية للفتاوى لتقوية شوكتها وتمرير رؤيتها.
وتسبب تركيز دار الإفتاء وبعض علماء الأزهر وقادة وزارة الأوقاف على إظهار مزايا الرضا والقناعة والصبر على الفقر وترتيب الأولويات في سخط واسع ضد الحكومة، لأن ذلك تزامن مع دعوات إعلامية مماثلة لمنابر قريبة من دوائر الحكم إلى الرضاء بالقليل والنهي عن الإسراف والاستجابة لنداء رجال الدين في مسألة التقشف.
وطالبت مؤسسة الفتوى بأن يتعود الناس على تربية أولادهم على الرضا والقناعة بما قسم الله لهم وعدم التطلع واشتهاء ما لا يملكون، ومن بين المنشورات أيضا، أنه “لا يجب على المسلم أن ينخدع بعروض السلع والتطلعات الترفيهية حتى لا يشعر بالحاجة والفقر، بل عليه أن يكتفي بالضروريات ويبتعد عن الإسراف والتبذير”.
وقوبلت حملة تهيئة المصريين للمزيد من الفقر بتذمر، لأن شريحة كبيرة من الناس فهمت الرسالة على أنها تمهيد لواقع قد يكون أشد قسوة على المواطنين، طالما أن المؤسسات الدينية الرسمية تتطرق إلى الكثير من الأوضاع المعيشية الصعبة بشكل متكرر، وتسعى إلى تغليفها بخطاب فقهي لتليين موقف الشارع الناقم على الحكومة.
ورأى معارضون أن حملة دعوة المصريين إلى التقشف وترتيب الأولويات موجهة إلى الطرف الخطأ، لأنه يفترض أن تكون الحكومة المستهدفة من هذا الخطاب الذي يحث على توجيه الإنفاق للضروريات بدلا من الرفاهيات، في ظل إصرار حكومي على استفزاز الناس بمشروعات قومية يمكن تأجيلها، لكنها تنفذها لدوافع استعراضية.
وأصيب مصريون باليأس من إمكانية تعديل الحكومة للخطط التنموية والاقتصادية التي تسببت في المزيد من الظروف المعيشية القاسية، وهي الحالة التي ظهرت تبعاتها السياسية في كثافة التعليقات الغاضبة من تصورات المؤسسات الدينية الرسمية المستهدفة للناس، لمطالبتها بالتجرؤ وتوجيه خطاب مماثل للحكومة، لأن سياساتها سبب رئيسي في الفقر، وهي من تبذر وتسرف لتطلعات تبدو ترفيهية.
وانتقدت أصوات مؤيدة للسلطة هذه الفتاوى، لأنها تفتح بابا للتشكيك في توجهات الدولة وتدخلها في خانة الحرص على توظيف الدين بأيّ وسيلة لتحقيق أهداف سياسية وتجييش الرأي العام خلفها بشتى السبل، ولا يجب استدعاء مؤسسة الفتوى لإقناع الشارع بوجهات نظر فقهية لترويض غضبهم من الفقر، والحكومة نفسها غير مقتنعة بنفس الرؤية الدينية.
وقال محمد سامي، الرئيس السابق لحزب الكرامة، لـ”العرب” إن الخطاب الديني ليس دوره إضفاء القدسية على كل قرار سياسي أو توجه حكومي، حيث يوحي للبعض بأن الدولة ليست قوية وتحتاج إلى دعم ديني بخطاب يحمل تلميحات سياسية، في حين أن الواقع عكس ذلك والدولة صلبة وليست مضطرة إلى الاستعانة بالفتاوى لتكريس ذلك.
يعيش أكثر من نصف المصريين تحت خط الفقر، وهؤلاء يمثلون قاعدة شعبية هامة، ساندت السلطة وقت الأزمات على أمل الخروج من دائرة الظروف القاسية، وتدرك الحكومة أن استمرار غضب هذه الطبقة أكبر تهديد لها، والمواجهة الأمنية معهم خاسرة، لأنهم لا يملكون شيئا، وبالتالي فالمواجهة الدينية مع البسطاء قد تكون حلا سحريا بحكم التدين الفطري لعدد كبير من المواطنين.
ويرى مراقبون أن زيادة حضور المؤسسة الدينية الطاغي، والتطرق إلى قضايا لها أبعاد اجتماعية واقتصادية تلامس بعض القضايا السياسية، أصبحا مثيرين للاستغراب، ويتناقض ذلك مع قناعات السلطة بأن الدين لا يجب أن يتشابك مع الحياة العامة ويتجاوز الحد المسموح به في دولة مدنية، كما أن النظام يجاهد لبناء جمهورية جديدة عصرية لا تعيد إحياء خطط وأفكار تيارات الإسلام السياسي.
وتغيرت إستراتيجية الخطاب الدعوي في مصر، وبدا جزء كبير منه مسيّسا بالتزامن مع عودة استهداف النظام الحاكم من جانب جماعة الإخوان ونشاط منابرها الإعلامية الكبير، فيما ظهر أئمة وزارة الأوقاف ودار الإفتاء وشيوخ في الأزهر، كشخصيات تتحرك في اتجاهات مختلفة لتكريس الأمن والاستقرار وتحريم التبذير وعدم التطلع إلى الغنى وسط الظروف المعيشية الصعبة.
ويحذر المراقبون من تكرار إقحام المؤسسة الدينية نفسها في جدل مرتبط بالسياسة أو ملامس معها، حتى لو كان ذلك تعبيرا عن نوايا طيبة، لأن هذا الخطاب يعيد إحياء تيارات متطرفة دأبت على توظيف الدين لخدمة السياسة، وليس منطقيا أن تكون نفس الحكومة التي تطارد فلول الإخوان في المجتمع تكرر أساليبهم في الإدارة.
يبني هؤلاء المراقبون رؤيتهم على أن حث الناس على الصبر في مواجهة الفقر لا يكون بإدخال أي جهة دينية لتصطف مع الحكومة، لأن الشارع لم يكن بتلك السذاجة حتى يختزل حل مشكلاته وتحسن ظروفه في الاستجابة لخطاب ديني مشكوك في خلفياته، ومثل هذه الفتاوى تمنح خصوم الدولة فرصة للمزيد من الاستهداف عندما تُظهر النظام على أنه عاجز عن إطعام الفقراء فلجأ إلى استغلال الدين لترويضهم.
لكن هناك وجهات نظر تدعم توجهات المؤسسات الدينية الرسمية في أن يكون لها دور سياسي، باعتبارها جزءا من كيان الدولة، ويجب أن يكون لها دور إيجابي في التدخل بعقلانية لحث الناس على التعامل مع الأزمات بحكمة وصبر عبر خطاب ديني توعوي يحصن الشارع من الاختراق بسبب الفقر والظروف الصعبة، لأن استسلام البسطاء للدعوات التحريضية من شأنه ضرب استقرار الدولة.
وأزمة بعض المؤسسات الرسمية في الخلط بين السياسي والديني لخدمة الحكومة، مع أن الأخيرة فشلت في إدارة علاقتها مع الفقراء وأقحمت نفسها في أزمات معقدة معهم حتى صارت تعيش حالة ارتباك يصعب فهم تفاصيلها، وتتودد للبسطاء وتخصص لهم برامج حماية اجتماعية ولا تخشى رفع الأسعار والخدمات، وتتدخل لضبط إيقاع الأمور، مع أنها تُدرك خطورة انفجار الغضب الذي لن تسكته الفتاوى.
وأشار محمد سامي لـ”العرب” إلى أن غضب البعض من الخطاب الديني القائم على الصبر مرتبط بأن الحكومة تستغل صبر وقوة تحمل المصريين بطريقة سيئة لمرات عديدة لتحريك أسعار السلع، وكانت الأمور تمر بهدوء، وأصبح تكرار اللعب على نفس الوتر مثيرا للريبة ويعطي انطباعا سلبيا عن النظام وعلاقته بالفقراء.
المشكلة أن المؤسسة الدينية، وهي تعاني لترميم مصداقيتها، تواجه شكوكا غير محدودة حول خطابها وفتاواها، ما يجعل الناس يتكهنون في أبعادها وخلفياتها السياسية ومدى ارتباطها مع توجهات الحكومة، ما يكرّس وضع جهات الفتوى في خانة واحدة مع السلطة، وهي ثغرة تستغلها تيارات متشددة لضرب مصداقية الدولة والخطاب الديني.