"فاروق الأخير" تكشف كواليس حقبة آخر ملوك مصر

يعود الكثير من الروائيين العرب اليوم إلى كتابة روايات تاريخية، تستلهم التاريخ وتحاول إعادة استنطاقه. لكن هذه العودة محفوفة بالكثير من المنزلقات لعل أهمها الاشتغال على الفترات نفسها، الإسلامية أو الاستعمارية، والسقوط في تكرار الماضي دون وعي. هذه المآزق حاول الروائي المصري منتصر أمين تجنبها في عمله الجديد عن فترة حكم الملك فاروق لمصر ووفاته.
القاهرة - مع حلول ذكرى ثورة يوليو 1952 في مصر، يعيد الروائي منتصر أمين تسليط الضوء على حقبة حكم الملك فاروق التي ألهمت الكثير من الكتاب والروائيين على مدى عقود، من خلال روايته “فاروق الأخير”.
تأتي الرواية، الصادرة عن الرواق للنشر والتوزيع بالقاهرة، في 236 صفحة من القطع المتوسط تتصدرها صورة نادرة للملك فاروق في شبابه، وهي السادسة في سلسلة روايات الكاتب الذي يعمل في سلك المحاماة.
حقبة من التاريخ
تبدأ الرواية من روما حيث المشهد الأخير في حياة الملك فاروق الذي توفي في الـ18 من مارس 1965 عن عمر ناهز 45 عاما بعد عشاء دسم في أحد المطاعم، ثم الجدل حول مكان دفنه مع عدم ترحيب السلطات المصرية آنذاك بدفنه في مصر.
وفي الفصول التالية يعود المؤلف إلى البدايات متجاوزا السنوات الأولى في عمر فاروق لينطلق من نقطة دراسته في إنجلترا التي قطعها فجأة بعد وفاة أبيه الملك فؤاد الأول في أبريل 1936 وعودته إلى مصر لتسلم السلطة.
وتعود أحداث الرواية إلى الوراء، مايو عام 1936، بعد وفاة والد فاروق الملك فؤاد الأول بنحو 10 أيامٍ، وبداية الأحداث الكبرى في القصر الملكي، وتوليّ الابن حكم البلاد في سنٍ صغيرةٍ بعد عودته من بريطانيا، ثم صراعات الإنجليز، والساسة، وحكومة «الوفد» برئاسة مصطفى النحاس، وعلاقات فاروق مع والدته نازلي، ثم أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت، وزوج والدة الملك فيما بعد، الرجل الجاد في طلب العلم، المحب للمغامرات، وفي رحلاته الاستكشافية بالصحراء الغربية، ثم مغامراته وطموحاته التي لا حدّ لها في عالم السياسة.

لما كانت الأحداث التاريخية والوقائع مثبتة ويصعب تغييرها وجد المؤلف متسعا لخياله في كواليس سنوات حكم الملك
يكتب أمين مختصرا حياة الملك المصري أنه “في فترة عصيبة من فترات تاريخنا المعاصر، فوجئ الفتى الصغير – في سن السابعة عشرة – بنفسه ملكًا على مصر. في ذلك الحين انحنى له كبار رجال الدولة، تملقه الجميع. عاش ضحية قهر الأب والخلافات الأسرية والمرض، وقع فريسة لمستشاري السوء وطالبي المناصب الرفيعة. فقد عرشه قبل أن يعتليه حين قبل المُلك وهو في طراوة الصبا وضحالة العلم”.
ولما كانت الأحداث التاريخية والوقائع مثبتة ويصعب تغييرها، وجد المؤلف متسعا لخياله في كواليس سنوات حكم الملك فاروق وعلاقته بأسرته وحاشيته والشخصيات السياسية البارزة آنذاك خاصة أمه الملكة نازلي ورئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا والأميرة شويكار زوجة أبيه الأولى.
وبينما تناولت الكثير من الكتب والروايات علاقة الملكة نازلي بأحمد حسنين باشا وما غرسته من مرارة في نفس الملك فاروق تبرز الأميرة شويكار في العمل كشخصية مثيرة للدهشة وجديرة بالتأمل.
تلعب الأميرة شويكار دورا محوريا في تحريك أحداث الرواية فيعزو إليها المؤلف الوشاية بعلاقة غريمتها الملكة نازلي بأحمد حسنين باشا للملك كما يعزو إليها إدخال فاروق لعالم السهرات والحفلات الخاصة التي كتبت نهاية زيجته الأولى من الملكة فريدة.
ولا تغفل الرواية الإطار السياسي لهذه الحقبة التي اتسمت بالتوترات والمشاحنات بين الأحزاب السياسية وبين الملك والاحتلال الأجنبي ممثلا في السفير البريطاني السير مايلز لامبسون.
كما تتوقف قليلا عند حادث السير الذي تعرض له الملك فاروق بسيارته عام 1943 والتحول الذي طرأ على تفكيره وأسلوبه في الحكم بعد الحادث.
ومع حلول مشهد النهاية الذي يغادر فيه الملك المتنازل عن عرشه إلى الخارج يبرز التضاد الذي رمى إليه المؤلف من عنوان روايته “فاروق الأخير” فالرجل الذي حمل لقب فاروق الأول كان آخر حكام مصر من أسرة محمد علي.
سيرة غيرية

تندرج رواية “فاروق الأخير” بامتياز تحت مظلة الرواية التاريخية، والتي لها بشكل عام مذاقها الخاص الذي يصنع أجواء جميلة ويُدخل القراء إلى عوالم مثيرة لا توفرها الرواية العادية التي تتناول الواقع المعيش، فضلاً عن المعلومات التاريخية التي تقدمها وتسهم في تعريف الجمهور بجوانب قد تكون منسية لديه.
وتتضمن الروايات التاريخية الكثير من القيم الجميلة التي يمكن بعثها مرة أخرى عبر تقديم حكايات تستلهم العديد من قيم الماضي البعيد، مثل الحرية والعدالة والجمال والحق والعلم وعشق العمل وتقديسه والتكافل والتراحم وغيرها من القيم العظيمة، فضلا عن إعادة طرح أسئلة وجودية، ولكن تبقى قيمتها الأكثر إغراء للقراء هي عرض الجوانب الخفية من التاريخ.
ويبرّر الكاتب المصري منتصر أمين اختياره لتلك الفترة لتكون زمنًا لأحدث رواياته بقوله إنها مرحلةٌ مهمةٌ جدًا في تاريخ مصر، كان المفروض أن تخرج فيها الدولة من "عباءة" الاحتلال الإنجليزي، لكن الصدمة أنّ السفير البريطاني كان يتحكم في مقدرات الدولة المصرية وقتها، بينما الملك فاروق كانت يداه مكتوفتين.
الرواية لا تغفل الإطار السياسي لهذه الحقبة التي اتسمت بالتوترات والمشاحنات بين الأحزاب السياسية وبين الملك والاحتلال
ويُضيف أمين أنه شغوفٌ طوال الوقت بالتاريخ، ومكتبة والده ساعدته على إشباع قراءاته التاريخية، يقول في تصريح سابق "بالنسبة إليّ كقارئ مهتم بالتاريخ قبل أن أكون روائيًا، طوال عمري كنت مستغربا كيف لشخص عمره 18 عامًا أن يحكم بلدًا مثل مصر، لم أستوعب هذا الأمر، ثم الهاجس المسيطر على كثيرين من أن الملكية كانت فترةً جيدةً، وفي الحقيقة إنها لم تكن ورديةً".
ورغم أن الالتفات إلى التاريخ ليس سمة تخص الجيل الأحدث من الروائيين العرب وحدهم، إنما هناك إرهاصات وتجارب سابقة لكثير من الأدباء من جيل الرواد والسابقين الذين قدموا تجارب فذة سميت نقديا بكتابات ما بعد الكولونيالية، غير أن الولع بالتاريخ وروايته بات أكبر لدى أجيال القراء في الوقت الحالي بالأدب المشتبك مع التاريخ، خاصة تاريخ الاستعمار والشخصيات التاريخية البارزة.
وقد لا تكون رواية أمين سيرة غيرية للملك فاروق بقدر ما هي تأريخ لحقبة هامة للغاية كانت مفصلية في تاريخ مصر ومؤثرة إلى غاية اليوم.
وتاريخيًّا السّيرة الغيرية أقدم من السّيرة الذاتية؛ لأنّها بَرَزَتْ مع التأريخ والأدب، وتكفي للاستدلال على هذا قراءة النقوش على الجداريات التي كتبها قدماء المصريين تخليدًا لسير ملوكهم وأبطالهم. ثمّة تطوُّر ملحوظ في كتابة رواية السيرة الغيرية (إنْ جاز الوصف) على نحو ما حدث مع السيرة الذاتية، فلم تعد السيرة الغيرية مجرد سير الأعلام أو التراجم التي حفلت بها كتب التاريخ، بل جاءت في بناء محكم وفي مساءلة للتاريخ تتجاوز نقله حرفيا إلى وضعه على المحك وإحيائه من جديد لفهم ما ترتب عنه.
لكن يبقى تساؤل النقاد العرب مشروعا اليوم في ظل ازدهار هذا النمط من الروايات، ففي ظل هذا الانتشار لكتابات روايات السيرة الغيرية، يتساءل كثيرون لماذا يلجأ الروائيون إلى استحضار شخصيات من المدونة التاريخية بمختلف أيديولوجياتها ليكتبوا عنها؟ هل هو إفلاس أم نضوب إبداعي، حيث يعمد الكاتب إلى تنشيط الخيال بسرد المعلومات؟
الكاتب منتصر أمين له العديد من الكتابات والمشاركات الأدبية في فن الرواية والمقال، ونشرت له عن دار تويا روايات، “الطواف”، “يحيى.. صحف أخرى”، و”شتاء أخير” عام 2017 وعن دار الرواق نشرت له رواية “قيامة الغائب” عام 2018، و”عين الهدهد” عام 2020.