غياب ميشيل بوتور آخر أعلام الرواية الفرنسية الجديدة

باريس- يعد الكاتب الفرنسي ميشيل بوتور رائد تيار الرواية الجديدة، هذا التيار الذي ظهر بفرنسا في خمسينات القرن الماضي، وكان يضمّ مارغريت دوراس، جان ريكاردو، نتالي ساروت، كلود سيمون، ألان روب غرييه، كلود أولييه، وروبير بينجي (وقد قضوا نحبهم كلُّهم قبله).
لم يشكّل بوتور مدرسة، وإن كان دعاته يلتقون في الدعوة إلى القطع مع الرواية التقليدية، في صيغتها الواقعية، مثلما كانوا يلتقون في منشورات مينوي، بل إن منهم من كان يرفض أن يُدرَس تحت هذه اللافتة، لأن أعمالهم في الحقيقة تختلف كثيرا بعضها عن بعض. فالمصطلح كان لاحقا لروايات “المشربية” لروب غرييه مثلا و”مدارات” لساروت و”التحوّل” لبوتور، إذ ظهر أول مرة في مقال للناقد إميل هنريو بجريدة لوموند في 22 ماي 1957، فيما لم يصدر كتاب روب غرييه التنظيري “من أجل رواية جديدة” إلا عام 1963.
كتب بوتور رواياته الأربع “ممرّ ميلانو”، و”جدول الوقت”، و”التحول” -التي فازت بجائزة رينودو عام 1957- و”درجات”، بين عامي 1954 و1960، ثم هجر الرواية نهائيا لينصرف إلى ألوان أخرى من الأدب كما سنبيّن أدناه، إلا أن رواياته تلك كانت مثار نقد وتعاليق صاخبة، ومنطلقا لطرح أفكار جديدة تلقفها بعض زملائه المذكورين.
الفكرة العامة التي يلتقي حولها أصحاب هذا الاتجاه هي رفضهم للنمط البلزاكي، وهم في ذلك متأثرون بروائيين أجانب لا سيما كافكا وفرجينيا وولف، ولكن تأثير ستندال وفلوبير لا ينكر، مثلما لا ينكر تأثرهم بـ”غريب” ألبير كامو و”غثيان” جان بول سارتر.
|
وتضيف “تلك المشاعر الموجودة لدى الناس جميعا، والتي يمكن أن تتجلى في أي وقت لدى أي كان، ينبغي أن تكون لها شخوص نكرات، تكاد لا ترى، مجرد سند”. والروائي في نظر دعاة ذلك التيّار مطالب بالامّحاء من النص والاكتفاء بدور سارد مغفَل خفيّ الاسم، وفسح المجال لأشخاص نكرات، فيما القارئ مطالب بالمساهمة في خلق النص، وعدم القناعة بتلقي عالم مكتمل، ناجز، منغلق على نفسه.
تيارات الوعي
في تصورهم أيضا أن الشخصية التقليدية تعكس اطمئنانا متخلفا للطبيعة الإنسانية، والأفضل استكشاف تيارات الوعي على تصوير الطبائع التي يرتابون في كونها حمّالة قيم أيديولوجية، فلما تحولت الشخصيات عندهم إلى شخصيات مغفَلة ومتناقضة، باتت تتطور بتطور عقدة ملغزة، لأن الرواية الجديدة تعترض كذلك على المعرفة، بتفضيلها للنزعة الذاتانية “subjectivisme” بدعوى أن غرابة العالم، التي يقع التركيز عليها من خلال دقة الوصف، تقتضي مشاركة متزايدة من قبل القارئ.
ولئن كانت الرواية التقليدية قد فرضت نفسها بوصفها جنسا أدبيا حينما سعت البرجوازية الغالبة إلى إشاعة قيمها في مطلع القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي أعلت فيه الرومانسية من شأن “الأنا” وأرست قداسة الفرد، فإن الرواية الجديدة، على العكس، هي نتاج مرحلة شهدت انتصار الجماهير ووضع الطبع البشري موضع شك وتساؤل. لكل تلك العوامل، كانت الشخصية في الرواية الجديدة -التي عادة ما يستعاض عن اسمها بالحرف الأول- متأثرة بتبعات تحول عميق في الذهنية والبنى الاجتماعية.
ويقول ميشال بيتور “الرواية التي كانت تعبيرا عن مجتمع يتغير، صارت تعبيرا عن مجتمع يعي تغيره”. وكان غرييه في كتاباته النظرية يدين هو أيضا مفاهيم الشخصية والتاريخ والالتزام ويعتبرها منقضية، فهو وإن كان يعترف بأثر كامو وسارتر، إلا أنه يعرّف الرواية الجديدة على أنها بحث لا يقدم مدلولا جاهزا، ولا يعترف للكاتب إلا بالتزام وحيد هو الأدب.
|
ولئن اقترن اسم ميشيل بوتور بالرواية الجديدة، فهو في الواقع عصيّ عن التصنيف. فخلافا لزملائه الأكثر شهرة أمثال كلود سيمون المتوج بجائزة نوبل عام 1985، ونتالي ساروت وألان روب غرييه، ثابر على نشر أعداد هائلة من الأعمال الصغيرة الحجم على مدى نصف قرن، كان يجمّعها بحسب أنماط متغيرة أو متواترة كـ”عبقرية المكان” و”جوّال” عن زياراته إلى مدن كثيرة في الشرق والغرب، و”مواد أحلام” و”ارتجالات” و”ارتسامات”.
بوتور المتفرد
رغم كل تلك التنظيرات، لا يمكن أن نسوي بين روايات دوراس وكلود سيمون مثلا، أو بين ساروت وبوتور، فهي مختلفة حتى من الناحية الشكلية، وهذا أمر طبيعي، لأن كل كاتب حقّ إنما يبدع وفق حساسية مخصوصة ولا يخضع لكراس شروط.
المفارقة أن بوتور الذي عُرف عبر العالم بروايات هوس ذات وضعيات ضيقة وفضاءات منغلقة (عمارة، شركة، قطار، فصل في معهد) صار كاتب رحلات وأسفار واستكشاف لفضاءات وثقافات بعيدة، ولو قارنّاه بزملائه في منشورات مينوي، لوجدنا الفارق بينه وبينهم جوهريا، فقد كان دائما ينزاح عن المتوقّع والمنتظر. وقال مرة إن غايته في الحياة أن يكون معاصرا، ولا شكّ أنه طبع عصره.