غياب الشاعر حميد المطبعي.. رجل الحرية

حميد المطبعي لم يكن مروره بالحياة الثقافية في العراق عابرا بل كان الرجل راعي حداثة أدبية لا تزال تجلياتها مؤثرة حتى اليوم.
الأربعاء 2018/04/18
صوت حداثي ينطفئ في الظلام

لا أعتقد أن أحدا في إمكانه أن يزعم أنه عرف حميد المطبعي، الذي توفي قبل يومين، كما هو في حقيقته. كان صاحب مجلة “الكلمة”، التي صدرت عام 1967 وكلف صديقه النجفي هو الآخر موسى كريدي برئاسة تحريرها، يسعى إلى أن يكون لغز الحياة الثقافية في ستينات العراق المضطربة.

ما كان في إمكانه أن يكون عرابا لحركة شعرية في بلد مثل العراق، تكثر فيه الرؤوس من غير أن يحظى رأس واحد بالإجماع.

كان الشك ولا يزال هو اليقين الوحيد الذي يجتمع من حوله العراقيون. فكان المطبعي يجيد صناعة المتاهات التي لن تقود دروبها إليه. كان بعثيا. غير أن هناك مَن يتساءل “هل كان الرجل بعثيا حقا؟” ذلك لأنه لم يمثل يوما ما دورا يشي بسلطويته أو احتمائه بالسلطة. كان ماركسيا أكثر من كثير من الشيوعيين. غير أنه لم يكن يكترث بالعقائد كثيرا.

حين أتيحت لي فرصة الاطلاع على رسائل متبادلة بينه وبين أدونيس والأب يوسف سعيد وسركون بولص، اكتشفت جانبا آخر من شخصيته، هو الجانب الذي يعلن من خلاله عن انحيازه إلى الحرية المطلقة.

الرجل الذي لم يكمل دراسته وعمل في مطبعة والدته “الغري” في النجف، والتي أدارها في ما بعد أخوه وكانت مجلة الكلمة وكتبها تطبع هناك، ومنها اكتسب لقبه. كان في الأساس شاعرا. غير أنه لم يشأ بحكم نزعته المتمردة أن ينتسب إلى سلالة شعراء النجف العموديين.

لقد قدر أنه لن يكون شيئا يُذكر مقارنة بالجواهري على سبيل المثال. لذلك اختار عن وعي “قصيدة النثر” ليحقق من خلالها منزلته الحلمية التي سرعان ما تخلى عنها بسبب اكتشافه أن تلك اللعبة كانت أكبر منه.

غير أنه اكتسب من تلك التجربة عنادا على المضي بالحداثة الشعرية إلى أقصاها، لا من خلال ما يكتبه شخصيا، بل من خلال ما يكتبه الآخرون من جيله والأجيال الأدبية اللاحقة.

كان حميد المطبعي هو مَن اخترع جيل السبعينات الشعري الذي انتسبُ إليه. لقد أثير يومها الكثير من اللغط حول أهداف المطبعي التي خُيل للبعض أنها لم تكن سوى انعكاسا لأوامر حزبية. وهو ما كان الرجل بريئا منه.

بالمعنى المعاصر كان المطبعي مكتشف ظواهر ومسوقا من نوع رفيع. ذلك هو الدور الذي لعبه حين قدم أدبا عراقيا جديدا في ستينات القرن العشرين من خلال مجلته “الكلمة”. وهو الدور نفسه الذي سعى إلى أن يلعبه في السبعينات، غير أن الحياة كانت قد تبدلت. وهو ما شكل صدمة للمطبعي الذي أدار ظهره للأدب بعد أن أغلق مجلته عام 1975 وصار يفكر بتأليف كتب السيرة التي اعتبرها نوعا من الجهد الموسوعي. وهو ما خصص له سنوات من حياته.

حميد المطبعي الذي ولد في النجف عام 1942 لم يكن مروره بالحياة الثقافية في العراق عابرا بل كان الرجل راعي حداثة أدبية لا تزال تجلياتها مؤثرة حتى اليوم.

يوم أدرك المطبعي أن زمنه الذي هو زمن التمرد الستيني قد انتهى أغلق مجلته الرائدة عام 1975 وذهب إلى مكان آخر. نبوءة تحقق من صدقها الكثيرون بعد سنوات حين عم ظلام الاستبداد وذهبوا إلى المنافي. كان حميد المطبعي رجل حرية.

14