غياب الثقافة والانحطاط الروحي قد يتسببان في تكرار سيناريو الحرب العالمية

يشبه الوضع الحالي للعالم وضعه أيام الأزمات الكبرى، ولو اختلفت الصورة بشكل جذري فإنها في عمقها تنبئ بأن القادم أخطر، تماما كما أنبأت الكثير من العوامل بنشوب الحرب الكونية الثانية، التي خلفت آثارا قاسية مازالت ماثلة إلى اليوم.
يواجه المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا وأحد مؤسسي التاريخ الثقافي الحديث في كتابه “في ظلال الغد.. تشريح لتعاسة العصر الحديث” آلام عصره ودمار الحرب ومآسيها وانحلال الفن والثقافة وظهور اللامبالاة في عالم سئم نفسه. وهو العصر الذي يشبه، إن لم يكن يتطابق، ما يعيشه العالم الآن في شرقه وغربه؛ إنه عصر ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية الذي تصاعدت فيه الصراعات والنزاعات والمؤامرات حتى بلغت ذروتها في انطلاق الحرب العالمية الثانية، وربما هو ما يجري الآن على الساحة العالمية مما قد يدفع العالم إلى حرب عالمية ثالثة.
ويشكل هذا الأمر جرس إنذار وتحذير مما يمكن أن يؤول إليه العالم حضاريا وثقافيا وفنيا وإنسانيا. فضلا عن ذلك للكتاب، الذي صدر مؤخرا عن دار صفصافة بترجمة مصطفى عبدالقادر، أهمية بالغة كونه استشرافا نقديا للأسس الفكرية لمرحلة ما بعد الحداثة.
تدهور الحضارة
يقول هويزنجا وكأنه يعيش الواقع الحالي “إننا نحيا في عالم فقد عقله، ونحن نعلم ذلك. لن يفاجأ أي شخص، لن يكون من المفاجئ لأي أحد إذا ما أفسح الجنون غدا الطريق لسعار قد يترك قارتنا الأوروبية المسكينة مشدوهة مذهولة؛ أمام محركات لا تكف عن الطنين، وأعلام لم تزل تخفق ولكن بلا روح”.
ويضيف “ثمة شكوك في كل مكان حول تماسك بنياننا الاجتماعي ومخاوف مستترة حول مستقبلنا القريب؛ ثمة شعور بأن حضارتنا على حافة الهلاك. ليست هذه المخاوف مثل القلق الذي يحيطنا عندما يخيم الليل ويخبو ضوء الحياة، بل توقع مبني على الملاحظة وحكم أساسه مجموعة هائلة من الحقائق لا تخطئها العين. كيف ننكر أن جل الأشياء التي بدت مقدسة وغير قابلة للتغيير يوما ما، باتت محلا للتنازع؛ الحقيقة والإنسانية والعدالة والعقل؟ إننا نرى أشكالا من الحكومات عاجزة عن أداء وظائفها وأنظمة إنتاج على شفير الهاوية، وقوى اجتماعية جن جنونها بالسلطة. يبدو أن المحرك الهادر لهذا الزمان المفزع يقوده إلى شفا جرف هار”.
ويتابع “إننا نشهد اليوم على أوسع نطاق انتشار الشعور بأننا نحيا وسط أزمة حضارية عنيفة، تنذر بالانهيار التام. لقد كان كتاب أوزوالد شبنجلر ‘تدهور الحضارة الغربية’ جرس إنذار لأعداد لا حصر لها عبر العالم، ولا يعني هذا أن كل من قرأ عمل شبنجلر قد آمن بما جاء فيه، لكن الكتاب قد أذهلهم عن إيمانهم غير المنطقي بأن التقدم صنو العناية الإلهية. وأطلعهم على فكرة تدهور الحضارة والثقافة الموجودتين في زمننا. إن التفاؤل المطمئن في الوقت الحاضر ممكن فحسب لأولئك الذين أضلهم ضعف بصيرتهم عن إدراك ما في الحضارة من سقم، لأنهم قد أصابهم هم أنفسهم نفس السقم، ولأولئك الذين تمدهم عقيدتهم في الخلاص بفكرة أنهم حازوا مفاتيح خزائن السعادة في الدنيا، ومنها سينثرون على البشرية بركات الحضارة المنتظرة”.
يحلل هويزنجا مفهوم الثقافة ويضعها في مواجهة ما يجري لافتا إلى أن “الثقافة كوضع اجتماعي، توجد عندما تحافظ السيطرة الطبيعية في المجال المادي والروحي على حالة أسمى وأفضل مما يمكن أن تنتجه شروط الطبيعة المعطاة. وخصائصها هي التوازن المتناغم بين القيم المادية والروحية ووجود مثل أعلى، بشكل أو بآخر، تلتقي عند السعي إلى تحقيقه كافة أنشطة المجتمع. إذا تضمن هذا الوصف -بما فيه من ذاتية لا مناص منها إذا ما اعتبرنا كلمتي أفضل وأسمى- شيئا من الحق”.
ويتساءل هل يمكن لعالم اليوم أن يدعي توازنا بين القيم الروحية والمادية؟ وهو التوازن الذي يعتبره شرطا أساسيا لدور وتأثير الثقافة، ويقول “ستميل الإجابة على الأرجح إلى النفي. هناك إنتاج كثيف في كلا المجالين، لكن، توازن؟ انسجام وتكافؤ بين القوى المادية والروحية؟ إن كافة مظاهر عصرنا من حولنا تستبعد كل فكرة وجود توازن حقيقي. إن نظامنا الاقتصادي عالي الدقة ينتج يوميا كما كبيرا من المنتجات، ويحرك قوى لا يريدها أحد ولا تعود بالنفع على أحد ويخشاها كل أحد، والكثيرون يعتبرونها غير جديرة وعبثية ومؤذية. تحرق حبوب القهوة للحفاظ على سعرها، وتجد الأدوات الحربية مشترين متحمسين لكن لا أحد يرغب في استخدامها”.
ويواصل المؤرخ “إن عدم التناسب بين الإتقان وقدرة الجهاز الإنتاجي والقدرة على تحويلها إلى منافع، الفقر وسط الوفرة؛ كلها تشير إلى انعدام المجال للتفكير في التوازن. هناك أيضا إفراط في الإنتاج الفكري، ووفرة دائمة في الكلمة المكتوبة واللاسلكية واختلاف فكري ميؤوس من إصلاحه تقريبا. أما الفن فقد وقع في حلقة مفرغة تقيد الفنان بالدعاية والموضة، وكلتاهما تعتمد بدورها على المصالح التجارية. وعبر كافة الأرجاء، بداية من الدولة ووصولا إلى الأسرة، هناك عملية تفكك لم يشهدها العالم من قبل. أما التوازن الحقيقي والتكافؤ فليس ثمة مجال للسؤال”.
ويضيف “الأكثر وضوحا وأثرا هي الاضطرابات في الجسد الاقتصادي، فكل أحد يشعر بها في حياته اليومية، أما تلك المرتبطة بالجسد السياسي فغير مباشرة بشكل ما، لذا لا يلحظ الإنسان العادي وجودها وتأثيرها بشكل عام إلا عن طريق وسيط الصحافة. وبالنظر إلى الاضطراب السياسي والاقتصادي وطبيعة تقدمه التدريجية ككل، يبدو أنه سينتهي إلى نفس هذا المآل. لقد أحكمت أدوات العالم إلى درجة أن القوى الاجتماعية، غير المحكومة أو المنقادة إلى مبدأ يتجاوز مصلحة كل فئة، تعمل كل منها على حدة بشطط سلطوي له ضرر بالغ واضح على تناغم الجسد الاجتماعي ككل”.
ويضيف “أشير هنا بالأدوات إلى وسائل الإنتاج والوسائل التقنية بشكل عام ووسائل الاتصال والنقل ووسائل الدعاية والتعبئة الجماهيرية، بما يتضمن آليات التعليم والتنظيم السياسي. عندما يفكر المرء في تطور كل وسيلة وأداة من تلك المذكورة على حدة دون تقديم تقييم، فهذا التطور يضمن بشكل كامل تطبيق مصطلح التقدم. لقد ازدادت قوتها جميعا بشكل هائل. ولنتذكر، مع ذلك، أن التقدم في ذاته لا يشير إلا للاتجاه دون التطرق إلى أي شيء له علاقة بالوجهة، سواء إلى الخلاص أو الهلاك”.
ويؤكد أننا نميل إلى التفاؤل الضحل الذي ورثناه عن أسلافنا من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، المفهوم الذي خلط بين السعي إلى “الأكبر” و”الأفضل” وبين مجرد السعي إلى “المزيد”. هذا التوقع الذي يوهم بأن كل اكتشاف جديد أو تحسين لما هو موجود يجب أن يحتوي على وعد بقيمة أعلى وسعادة أكبر، هذا الوهم الساذج الموروث من عصر مسحور بالتفاؤل الفكري والأخلاقي والعاطفي. وليس من قبيل التناقض إن قلنا إن الثقافة قد تتعثر عن التقدم الحقيقي والملموس. لقد قال وليام جيمس ذات مرة “إن التقدم شيء مفزع”، الأكثر من ذلك أنه مفهوم شديد الغموض. فمن يدري شيئا أكثر عن انهيار جسر أو ظهور صدع يشق الأرض؟
تجديد الفرد
يرى هويزنجا أن “ثمة حقيقة مقلقة تتمثل في أنه في أشكال المجتمعات الأقدم والأكثر تقييدا صنع الإنسان وسائل الترفيه الخاصة به بنفسه. غنى الناس ورقصوا أو لعبوا معا. في حضارة اليوم أزيح كل هذا لصالح مشاهدة الآخرين وهم يغنون ويرقصون أو يلعبون. كانت هناك دائما جماهير وفنانون بالطبع، لكن الشيء المهم في عصرنا هو أن الجانب السلبي عادة ما يتغلب على الجانب النشط. حتى في مجال الرياضة، هذا الجزء المهم للغاية من الثقافة الحديثة، هناك ميل متزايد من قبل الجماهير إلى جعل الآخرين يلعبون لها. هذا الانسحاب من المشاركة النشطة في الأنشطة الثقافية أصبح أكثر اكتمالا من خلال الفيلم والراديو”.
ويبين أن الانتقال من المسرح إلى السينما هو الانتقال من مشاهدة المسرحية إلى مشاهدة انعكاس المسرحية. تم اختزال الكلمة والإيماءات من فعل حي إلى مجرد إعادة إنتاج. الصوت المنقول عبر الأثير ليس أكثر من صدى. حتى مشهد الأحداث الرياضية تحل محله بدائل البث في الصف الأول في الحلبة وتقارير الصحف. كل هذا يحتوي عنصر الإضعاف الثقافي والانحلال. ويتجلى بشكل خاص في جانب مهم آخر من الفن السينمائي. يتم التعبير عن العمل الدرامي نفسه بشكل كامل عمليا في المرئي ظاهريا بينما يتم إنزال الكلمة المنطوقة إلى مكان ذي أهمية ثانوية فقط.
ويرى أن فن المشاهدة أصبح مجرد مهارة في الإدراك والفهم السريع للصور المرئية المتغيرة باستمرار. لقد اكتسب جيل الشباب هذا الإدراك السينمائي بدرجة مذهلة. إلا أن هذا الاعوجاج العقلي يعني أيضا ضمور سلسلة كاملة من الوظائف الفكرية. ولإدراك هذا لا يحتاج المرء إلا إلى التفكير في الفرق بين متابعة كوميديا لموليير وفيلم. ودون ادعاء تفوق الفكر على المتلقي البصري، لا بد من الاعتراف بأن السينما تعطل عددا من وسائل الإدراك الجمالية والفكرية مما لا يمكن إلا أن يؤدي إلى إضعاف الحكم. أضف إلى ذلك أن آلية الترفيه الجماعي الحديث معادية للتركيز، فتحول إعادة الإنتاج الميكانيكي للصوت والمشهد عمليا دون عنصر التسليم والتشرب؛ ليس ثمة رهبة ولا سكون ولا تواصل مع الذات الداخلية، بالرغم من أن هذا السكون والتواصل مع الذات هما ما لا يمكن أن توجد ثقافة بدونهما.
ويشير هويزنجا إلى أن تقدم المعرفة والعلوم التطبيقية مهما كانت حتميته وإلهامه لن ينقذ ثقافتنا. العلم والتكنولوجيا لا يكفيان كأساس للحياة الثقافية، فأصول الانحطاط الروحي تكمن في عمق أبعد مما يستطيع الفكر النقدي وقوة الإبداع التقني علاجه، وهذا يقودنا إلى السؤال الذي تجنبناه حتى الآن: العلاقة بين الأزمة الثقافية والظروف الاجتماعية والاقتصادية. ليس فقط الماركسيون العقائديون هم من يؤمنون بهذا الرأي. لقد كان تأثير الفكر الاقتصادي على عصرنا قويا إلى درجة أن الكثيرين، دون قبول المذاهب الأساسية للماركسية بالضرورة، يعتبرون أنه مما لا جدال فيه أن الأساس النهائي للمرض الروحي كامن في العيوب الاجتماعية والاقتصادية.
ويوضح أنه غالبا ما يرتبط هذا الاقتناع بأن التحولات والاضطرابات البعيدة المدى ذات الطبيعة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي نشهدها تقدم دليلا على أننا نعيش في فترة تغير هيكلي أساسي في المجتمع، “فترة إعادة تشكيل” كما أسماها كارل مانهايم دون تردد. إن المؤشرات على مثل هذا التغيير مثيرة للإعجاب بالفعل. بعد قرون من العلاقات الثابتة نسبيا، يبدو أن عملية الاضطراب التدريجي قد هاجمت الآن كل ما كان يبدو يوما ما ثابتا وصلبا في مجال الإنتاج والتبادل ومستوى القيمة والعمل والحكومة، يبدو أن مبادئ الملكية الخاصة والمشاريع الخاصة تهتز أسسها. كل هذا كما يقال، يشير إلى أننا نتجه نحو بناء جديد ومختلف للمجتمع.
ويخلص يوهان هويزنجا إلى أنه لا يجب أن نتوقع الخلاص من تدخل المنظمات الاجتماعية. إن أسس الثقافة ليست على هذا النحو، يمكن لأجهزة المجتمع، سواء كانت أمما أو كنائس أو مدارس أو أحزابا، أن تعيد تأكيدها أو تقويها. المطلوب هو تجديد داخلي للفرد. يجب أن تتغير العادة الروحية للإنسان نفسه. لقد قطع عالم اليوم شوطا بعيدا على الطريق نحو التنصل العالمي من المعايير الأخلاقية، ولم يعد يرسم خطا واضحا بين الخير وبين أنه يميل إلى رؤية أزمة الحضارة بأكملها على أنها مجرد صراع بين القوى المتعارضة، وصراع على السلطة بين الخصوم. ومع ذلك يكمن الأمل الوحيد في الاعتراف بأن العمل البشري في مسار هذا الصراع يجب أن يحكمه مبدأ الخير والشر المطلقين. من هذا الاعتراف يترتب أن الخلاص لا يمكن أن يكمن في انتصار دولة واحدة، أو شعب واحد أو عرق واحد أو فئة واحدة. إن إخضاع معايير الموافقة والإدانة لهدف يقوم على الأنانية هو تشويه كل المشاعر الحقيقية للمسؤولية الإنسانية. إن المعضلة التي تواجه أمتنا تزداد حدة كل يوم.