غونتر غراس يواجه أشباح الماضي في ترجمة عربية جديدة

استضافت دار نشر الكتب خان في القاهرة ندوة حضرها الكاتب والمترجم المصري سمير جريس لمناقشة كتابه الصادر حديثا عن الدار بعنوان “غونتر غراس ومواجهة ماض لا يمضي”. يجسد الكتاب أهم المواقف في حياة الكاتب والفنان الألماني الحاصل على جائزة نوبل والذي توفي عام 2015. وهو يعدّ أول كتاب نقدي باللغة العربية يتناول شخصية غونتر غراس.
ترجع أهمية الكتاب إلى كون مؤلفه سمير جريس المقيم في ألمانيا، حيث يعمل مترجما، قد أتيح له الاقتراب من حياة الكاتب الألماني، والتقى به مرارا. ويقدّم في عمله هذا رؤية نقدية لأبرز أعمال غونتر غراس، ولا سيما تلك المترجمة إلى العربية، ويفرد المؤلف فصلا عن علاقة غراس بالعالم العربي، وتحديدا من خلال الرحلتين اللتين قام بهما إلى اليمن في مستهل الألفية الثالثة، وكان المؤلف شاهدا عليهما.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه: منذ أول أعماله رواية “طبل الصفيح” وغراس هو الكاتب الحداثي في ألمانيا، والوجه الأبرز للأدب الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، وأكثر الكتاب الألمان تأثيرا في الأدب العالمي.
لذلك غدا غراس النموذج والمعلم بالنسبة إلى العديد من الأدباء في العالم، مثل سلمان رشدي وجون إرفينج. أما في المنطقة العربية فقد ارتكزت شهرة غراس أساسا على مواقفه السياسية المناصرة لحقوق الإنسان والداعمة للعالم الثالث. وبالرغم من ترجمة عدد من أعماله إلى العربية، فإنه لم يُقرأ على نطاق واسع، وأعتقد أن ابتعاد القراء العرب عن أعمال غراس يرجع، من ناحية، إلى ضخامتها وتعقد بنيتها والتصاقها بالتاريخ الألماني واحتشادها بالتفاصيل، كما يعود إلى نوعية الترجمات العربية. ويتضح قلة الاهتمام بغراس عربيا في عدم وجود كتب تتناول حياته أو أعماله.
فهذا -على حدّ علمي- أول كتاب يصدر بالعربية عن صاحب ثلاثية “دانتسيغ”. غونتر غراس أيضا لم يعرف إلا القليل عن الأدب العربي، رغم أنه زار مصر عام 1979 بدعوة من معهد غوتة في القاهرة، حيث عرض الفيلم الذي أخرجه فولكر شلوندورف عن رواية “طبل الصفيح”. بعد ذلك بسنوات زار غراس اليمن مرتين في مطلع الألفية الجديدة.
الكتاب يعدّ نافذة صغيرة على عالم كاتب كبير، كاتب وجد نفسه منذ صباه في قلب أحداث أعادت تشكيل العالم بأسره
وعندما سألته في صنعاء عن الأعمال التي قرأها بالعربية، قال لي إنه لم يطالع سوى بعض من روايات نجيب محفوظ. كان واضحا لكل من رافق غراس في اليمن أن العمارة التقليدية هناك -التي أطلق عليها غراس “قصيدة من طين”- هي التي فتنت قارع “طبل الصفيح”، وأثارت اهتمامه أكثر من الأدب العربي.
يستعرض الكاتب حياة غراس منذ مولده في مدينة دانتسيغ في نهاية العشرينات من القرن الماضي، والمناخ الاجتماعي والسياسي السائد في تلك الفترة والذي دفع بالحزب النازي إلى صدارة الحكم في ألمانيا، لينضم غراس في ما بعد إلى الجيش النازي كمساعد في سلاح الطيران ويشارك في الحرب العالمية الثانية، ثم وقوعه في أيدي القوات الأميركية سنة 1946 أسيرا، وبعد انتهاء الحرب يطلق سراحه في نفس السنة.
يشير الكاتب إلى بداية تألق غونتر غراس بعد نشر روايته “طبل الصفيح” وهي الجزء الأول من ثلاثيته الشهيرة “دانتسيغ” التي تضم أيضا روايتي “القط والفأر” و”سنوات الكلاب”. وهي عبارة عن قراءة تاريخية نقدية للأحداث التي شهدتها أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص، وقد اعتمدت في بعض تقنياتها على أسلوب السرد العربي القديم.
حاز غراس على جائزة نوبل عام 1999، وكانت كلمته خلال حفل توزيع الجائزة معبرة عن إيمانه العميق بضرورة تحرّر المبدعين من كل ما يُعيق قدرتهم على التعبير، أو يقف أمام رغبتهم في المعرفة وطرق مناح جديدة ومختلفة للإبداع.
هذا الكتاب يعدّ نافذة صغيرة على عالم كاتب كبير، كاتب وجد نفسه منذ صباه في قلب أحداث أعادت تشكيل العالم بأسره. لقد انساق وراء النازية صبيا، وخبر ضعف الفرد أمام غواية الشرّ، ثم شارك في حرب عالمية مدمّرة، وظل يؤمن حتى اللحظة الأخيرة بالنصر النهائي لقوات هتلر. وبعد أن انتهت الحرب التي فتكت بزملائه، وزالت الغشاوة النازية عن عينيه، أدرك أنه يحيا بالصدفة، وأنه كان شاهدا على أحداث وجرائم بشعة، بل ومشاركا فيها، فكانت الكتابة سبيله لمواجهة الماضي.