غوغان قيمة فنية حتى ولو رمي بألف حجر

منتقدو غوغان يقولون إنه استغل وضعه كمواطن غربي متميز، للاستفادة القصوى من الحريات الجنسية المتاحة له.
الجمعة 2019/11/22
بورتريه الفتاة تاهامانا المثير للجدل

هل الإبداع إشكال فني أم أخلاقي.. الجدل الذي أثير حول غوغان مؤخرا، ورافق معرضه في المتحف الوطني في لندن، يحتم علنا طرح سؤال يتجاوز الفنان الفرنسي، الذي عاش وعمل في القرن التاسع عشر، وأمضى جزءا من حياته في جزر تاهيتي.

هل حان الوقت لكي نشيح بنظرنا عن أعمال غوغان؟ هكذا يتساءل نشطاء المجتمع المدني.

أهم لوحة بين أعمال غوغان الوجهية المعروضة، هي بورتريه لفتاة اسمها تاهامانا ممسكة بمروحة، رسمها غوغان عام 1893، وهي لفتاة مراهقة ارتبط الفنان بها بعلاقة عاطفية حميمة، وتزوّج منها وهي في عمر الرابعة عشر ونيف.

يقول منتقدو غوغان إن الفنان استغل وضعه كمواطن غربي متميز، للاستفادة القصوى من الحريات الجنسية المتاحة له.

الأمر لا علاقة له بالحرية الجنسية، لأن علاقة غوغان بفتاتين مراهقتين في تاهيتي انتهت كل منها بالزواج، ويجب عند الحكم ألا ننسى أيضا أن غوغان ليس غربيا دخيلا على تاهيتي، فهو بالأصل ابن لفرنسي، أما أمه فهي من البيرو، حيث قضى الفنان سنين طفولته الأولى. أي أنه متشرب للثقافة والقيم الجنوب أميركية.

نحن نتحدث عن القرن التاسع عشر، في تاهيتي، عندما كان زواج الفتاة في سن الرابعة عشر، أو الخامسة عشر، أمرا مقبولا لا يثير الاستهجان.

رغم ذلك، لا نريد تقديم دفاع عن غوغان.. سنفترض أنه قام بفعل مستهجن، بل فعل يرقى إلى مستوى الجريمة. هل يغيّر هذا من قيمة أعماله الفنية، ومنزلته كفنان.. هذا هو السؤال.

تمتلئ قاعات المتاحف في العالم بأعمال هي محل جدل وخلاف أخلاقي، كل ما أنتجه المستشرقون من أعمال فنية، يمكن أن يثار حوله الجدل، بما في ذلك أعمال فنان الثورة الفرنسية أوجين ديلاكروا.

ضمن المقياس الأخلاقي للنقاد، الذين يطالبون برمي غوغان بالحجارة ورفع أعماله من المتاحف، يمكن لآخرين أن يدعوا إلى هدم الأهرامات المصرية وكل المسارح الرومانية، التي بنيت للتلذّذ بآلام العبيد.

أي عمل فني يمكن النظر إليه من وجهات مختلفة: اجتماعية، تاريخية، سيكولوجية وجمالية.

التحليل الاجتماعي التاريخي والسيكولوجي لأعمال غوغان، التي أنجزها في جزر المارتينيز، يثير جدلا أخلاقيا مشروعا حول غوغان، بصفته الشخصية وليس بصفته الفنية. العمل الفني بعد أن ينجز ويعرض للجمهور يتوقّف عن أن يكون ابنا للفنان. إنه كائن مستقل قائم بذاته.

لقد أثارت لوحة الموناليزا لعبقري عصر النهضة ليوناردو دافينشي الكثير من الجدل، شارك فيه علماء نفس وأطباء ومؤرخون، البعض

اعتبر الموناليزا شابا رسمه الفنان على هيئة امرأة، وآخرون اجتهدوا ليفسرّوا الابتسامة الغامضة بشلل وجهي.

قيمة العمل الفنية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمثل هذه التفسيرات، عبقرية ليوناردو هي اكتشافه للبعد الثالث في اللوحة والمنظور الهوائي. أي جدل آخر لن ينقص من قيمة العمل فنيا. القيمة الفنية ثابتة بغض النظر عن الجدل الأخلاقي والتاريخي والنفسي.

الانطباعيون الذين عملوا في نفس الفترة التي عمل فيها غوغان حرّروا الألوان، وحرّروا ضربة الفرشاة، ولكنهم قدموا أعمالا تخلوا من الدلالات، همّهم الوحيد متابعة الضوء في تحولاته الآنية.

غوغان سار خطوات إلى الأمام، أضاف بعدا رمزيا إلى اللوحة، وتعامل مع المساحات اللونية والخطوط بوصفها قيمة مستقلة عن الطبيعة، خلق طبيعته الخاصة به. بفضله غيّر الفنانون الطريقة التي ينظرون بها إلى العالم.

أصبحت اللوحة عالما قائما بذاته، ولولا غوغان لما كان هناك ماتيس، ولولاه أيضا ما كان هناك بيكاسو، ولما كان هناك فن تجريدي.

في عام 2015 بيعت لوحة للفنان، رسم فيها فتاتين من جزر تاهيتي، بمبلغ ثلاثمئة مليون دولار، ليكون أعلى سعر يدفع مقابل لوحة. هكذا قيّم العالم عمل غوغان.

وزواجه من مراهقة لا يغيّر من القيمة الفنية لأعماله، حتى ولو ضربناه بألف حجر.

17