غناء عربي في زنجبار

ليس صعبا الإقرار بأن الغناء في زنجبار وإن كان باللغة السواحلية، هو غناء عربي في مقامته وروحه وتعبيريته، كما ليس صعبا عندما يتعلق الأمر بالتاريخ القول إن زنجبار كانت تحت السيادة العمانية حتى عام 1964 قبل أن تستولي عليها تنزانيا. لكن المثير في الأمر أن تستمع لهذا الغناء وتشعر به بعمق كأي لحن عربي، من دون أن تفهم معنى الكلمات.
هناك تخت شرقي مرافق لكل الأغاني في زنجبار، وثمة جمل موسيقية تجدها كما في الغناء بالخليج والمغرب العربي. ببساطة متناهية هناك غناء عربي بلغة أخرى في زنجبار، فهل تسنى للنقد الموسيقي العربي دراسة ذلك؟
لقد تسنى لي بمصادفة غير متوقعة أن أستمع إلى “بي كيدودي” أوما يطلق عليها بـ”ملكة الطرب الموسيقي” هكذا يلفظ التعبير باللغة السواحلية، كما العربية تماما. اسمها الحقيقي فاطمة بنت بركة، ولست متأكدا إن كانت تتقن اللغة العربية أو تعرف دلالة اسمها العربي. لكن ما أبهرني في أغاني هذه المطربة المولودة عام 1910 ابنة بائع جوز الهند في زنجبار، أنني كنت استمع في صوتها العميق المبحوح إلى أغاني سليمة مراد وزكية جورج وأسمهان وليلى مراد وعلية التونسية وليلى عبدالعزيز ومائدة نزهت. تغني بإحساس عجيب ويُعتقد أنها كانت أكبر مغنية متجولة في العالم قبل وفاتها عام 2013.
أقترح عليكم الاستماع لهذه المغنية التي بقيت تغني حتى آخر سنوات حياتها بعد أن بلغت الثالثة بعد المئة! لتكتشفوا كيف تتمتع بصوت حزين وحضور غامض على المسرح.
في السنوات الثلاثين الأخيرة من عمرها، أصبحت معروفة على نطاق واسع باعتبارها واحدة من أفضل الموسيقيين في جزيرة تشتهر بالقرنفل ومنفتحة على التأثيرات الشرقية.
عندما سُئلت عن ولادتها في حوار تلفزيوني قالت، “لست متأكدة لكن ميلادي كان في زمن الروبية”. وكم تبدو دلالة هذه الإجابة قريبة من أزمان عربية. هكذا كان الناس يؤرخون لمواليدهم مع الأحداث الكبرى، وليس بالتواريخ.
كانت بي كيدودي واحدة من أوائل نساء زنجبار اللواتي رفعن الحجاب وغنين في الأماكن العامة. وكانت هذه خطوة شجاعة في مجتمع ذكوري محافظ.
لقد وجدت هذه المغنية الأسطورية في الموسيقى العربية ما يجعلها أكثر تعبيرية، فاختارت أن تمزج الإيقاعات الأفريقية مع أغاني الطرب العربية في تخت شرقي من آلات الكمان والناي والقانون والرق.
عندما تتبعت شيئا من سيرتها المثيرة للدهشة، أدركت كيف أنها كانت تحمل رسائل موسيقية إلى العالم بشأن المرأة عندما انطلقت في جولة ماراثونية في شرق أفريقيا. وسافرت بالمراكب الشراعية، وتنقلت أحيانا بالقطار، ولكن في الغالب سيرا على الأقدام. واستندت ذخيرتها الموسيقية إلى أغاني مطربة سبقتها اسمها ستي بنت سعد، مع تعديلها لتناسب طبيعة غنائها.
تعزف بي كيدودي وفرقتها على الطبول وتغني الأغاني الاستفزازية لجمهور من مئات النساء. فساعدت على تنشئة العديد من الفتيات على مر السنين حتى اكتسبت لقبها الذي أصبح علامتها الفنية بوصفها “ملكة الطرب الموسيقي”.
ظلت مسيرتها الغنائية خاملة حتى منتصف عمرها تقريبًا، ولكن في الثمانينات، تجدد الاهتمام بموسيقاها عندما غنت مع فرقة خاصة. وفي وقت لاحق، انضمت إلى فرقة Twinkling Stars التي تتخذ من زنجبار مقرا لها وقامت بجولات في ألمانيا وبريطانيا والدول الأسكندنافية واليابان.
وقرأت أنها زارت بعض دول الخليج العربي لكنني لم أجد الكثير من المعلومات عن تلك الزيارة وهل لقيت شيئا من الاهتمام واستمع لها الملحنون العرب.
كانت بي كيدودي امرأة صغيرة نحيفة المظهر، وكانت تتمتع بقوة تحمل هائلة وحس فكاهة قوي. وكانت تعيش في منزل متواضع مع بعض أحفادها وطيورهم في زنجبار.
ألا تبدو سيرة هذه الزنجبارية أشبه بسيرة مطربة عربية عاشت الخيبة في آخر سنوات عمرها!