غلاء الأسعار يحرم الليبيين من وجبة السمك المفضلة

شواطئ ممتدة وحصيلة أسماك ضئيلة بسبب غياب الصيادين.
الاثنين 2020/11/02
مهنة غادرها الأجانب والشباب

تمتد السواحل الليبية على طول مئات الكيلومترات وهي غنية بمختلف أنواع السمك، لكنّ عوامل عديدة جعلت الليبيين لا يستمتعون بهذه الثروة. فغياب الصيادين الأجانب الذين رحلوا بسبب الحرب وعدم إقدام الشباب الليبي على هذه الحرفة، إضافة إلى غلاء المواد الأولية، كلها مبررات جعلت الإقبال على الصيد نادرا وبذلك ارتفعت أسعار الأسماك في السوق.

طرابلس - في مرفأ طرابلس القديم، تعكِس شمس خريف جنوب المتوسط أشعتها اللطيفة على جبين أكبر الصيادين سنا في المدينة، الريّس عبدالسلام بن عقيلة، وتُظهِر تجاعيد وجهه العميقة عمق ما يعانيه الشيخ الذي قارب التسعين عاما وهو يكافح من أجل قوته.

وبيديه التي لم تمنعهما رعشه المُسِنّين عن نسج خيوط الصيد بِحِنكة، يواصل بن عقيلة عمله مع مساعده. وفي حديثه عن الفرق بين الماضي والحاضر، وعمّا يعانيه الصيادون، قال، “الإنتاج ضعيف جدا، واليد العمال قليلون جدا بعد عودة أغلب الصيادين الأجانب إلى بلدانهم بسبب ما يجري في ليبيا، وحتى من يأتي منهم بات مشكوكا في نواياه بسبب هروب صيادين أجانب كثر بجرافات صيد إلى إيطاليا، ودفع هذا أصحاب الجرافات إلى الخوف من الخروج للصيد، وقلل من عرض السمك في السوق. ومن جهة أخرى، يعزف أغلب الشباب الليبي عن امتهان الصيد كحرفة أساسية، وحتى من تستهويه الفكرة ويسعى إلى المغامرة لا يأخذ الأمور بجدية، ولا يخرج للصيد إلا عندما تفرغ جيوبه تماما”.

ويضيف، “الصيد حلقة متكاملة يجر بعضها بعضا، فأسعار السمك المرتفعة تجر معها أسعار الطُعوم، وهكذا، فبعد 5 إلى 10 دنانير كنا ندفعها نظير صندوق السردين، بتنا ندفع بين 120 إلى 350 دينارا، هذا بالإضافة لما نعاني من قلة قطع الغيار والمحركات ومعدات الصيد وارتفاع أسعارها، وكذلك وقود الديزل الذي نشتريه من السوق السوداء”.

أغلب الشباب الليبي يعزفون عن امتهان الصيد، وحتى من تستهويه الفكرة ويسعى إلى المغامرة لا يخرج للصيد إلا عندما تفرغ جيوبه تماما

بِخبرة 70 عاما من الصيد، وبعد إنهاء نسج خيوط الشباك، يختصر بن عقيلة ما يجري في المرفأ بمثل ليبي قديم يقول “كُل بيدك يا فقيه”، ويفسره بأن “الزمام انفلت، والفوضى عمت كل شيء”.

ويضيف، “القانون يعلم الأدب، ونحن نفتقده الآن، ففي الماضي كانت الأمور مقننة ومنضبطة، وكانت قواربنا مخصصة لصيد السمك وبيعه في السوق، وليس المتاجرة بحياة البشر بين الأمواج”.

مع كل ما يعانيه، رفض هذا المُسِن توجيه أي دعوة للمسؤولين، بحجة أن لا أحد سيستمع لها، إلا أنه يبدي تفاؤلا بالمستقبل حين يقول، “لكل شيء مزايا وعيوب، فمع أن قلة الجرافات العاملة رفعت سعر السمك، إلا أن بحرنا ارتاح من شباكها الضيقة التي تأخذ معها حتى (الزريعة)”. وهو لفظ يعني البذور، يطلقه البحارة الليبيون على الأسماك الصغيرة “محرمةُ الصيد”، حسب عرفهم، إلا أن “البحارة الأجانب لا يأبهون بمستقبل الثروة البحرية الليبية”، بحسب وجهة نظر بن عطية الذي جذب حديثه صيادين آخرين جلسوا بجانبه وأيدوه الرأي.

في الطرف الآخر من المرفأ؛ استبشر وجه الصياد الهاوي ناجي عاشور خيرا عندما انثنت قصبته بحِدة. ولكن، سرعان ما عبس وجه ابنه الصغير الذي يرافقه حين بان كيس النايلون المملوء بالماء والفضلات وهو يتأرجح مكان السمكة المرجوّة أو الطُعم المهدور. يقول، “هذا حالنا مع القاذورات التي تُلقى دون رقيب، والفوضى التي عمت كل شيء”.

يوافق عاشور في شكواه متقاعد يهوى الصيد يُدعى فوزي فرحات، الذي يقول الأخير هو يطلب منا التوجه إلى المسؤولين للبحث عن أجوبة، “لن تحل صنّارات وقصبات الهواة مشكلة ارتفاع الأسعار، فأنا مثلا، لا أبيع أسماكي، بل أعود بالكبير منها إلى عائلتي والصغير لقططي في المنزل”.

وسط العاصمة وداخل مكاتب الهيئة العامة للثروة البحرية، يوافق مدير الهيئة، الكابتن عجيلي المنصوري على كل شكاوى الصيادين، ويقر بوجود تقصير تسبب به عدم استقرار الإدارات الناتج عن الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في ليبيا، وفق قوله.

ويرى المنصوري أن “سبب زيادة أسعار السمك هو تدهور الإنتاج الذي يعود في المقام الأول لقلة إمكانيات الدولة والصيادين معا”.

يقول، “قوانين الصيد في ليبيا قديمة وبعضها ليس في مصلحة الصياد ولا تساعده على التدرج الوظيفي. والدولة عبر سنين لم تنشئ موانئ ومرافئ قريبة من مناطق الصيد ولائقة باستيعاب السفن المكدسة. والشركات الأجنبية التي كانت في طور تجهيز بعض الموانئ غادرت البلاد بسبب الظروف الأمنية. هذا بالإضافة إلى عزوف الليبيين المُلاحظ عن الاتجاه للصيد البحري، فحتى خريجو معاهد الصيد يتجهون لنشاطات أخرى كالنفط والنقل البحري لأنها ذات جدوى مالية أكثر. والآن جاءت أزمة كورونا وعقدت المشكلة”.

يتابع، “الحرب أيضا نالت حصتها، حتى ميناء طرابلس تلقى ضربات قاسية. والانقسام السياسي حدّ من حرية الصيادين في التحرك شرقا وغربا”.

شاهد بعينيك ولا تشتر
شاهد بعينيك ولا تشتر

ويستعرض المنصوري إمكانيات الساحل الليبي بالقول، “لدينا 1900 كيلومتر من السواحل غير المستغلة جيدا، و140 كيلومترا هي عرض المياه الاقتصادية الليبية التي تعتبر أقل مياه المتوسط تلوثا، كما أن الأسماك تتنوع فيها بشكل مذهل، فلدينا كميات هائلة من الأسماك الزرقاء كالسردين والكوالّي، وأجود وأكبر أنواع التونة، هذا بالإضافة إلى أسماك، المرجان، والتريليا، وأبوسيف، والكلمار، والقرنيط، والمحار، والغمبري، والقاروص، والمغزل، وكلب البحر، والأوراتا، والفروج، والمنّاني، والباقرو، والدوت، والخنزيرة، والعزّابي، والحمراي”.

ويشتكي مدير الثروة البحرية من تأثير الهجرة غير الشرعية السلبي على الصيد البحري، ووصل الأمر “حسب قوله “إلى قيام مهاجرين أفارقة بقرصنة سفن وقوارب صيد والاتجاه بها إلى أوروبا شمالا بعد القضاء على الصيادين أو احتجازهم قصرا. هذا بالإضافة إلى انتهاك المياه الليبية من سفن وجرافات صيد أجنبية يتم ضبطها من خفر السواحل والبحرية الليبية، فالكل يتكالب على مياهنا العذراء بسبب تعذّر حراستها، بحسب قوله.

وفي محاولة للسيطرة على الأسعار المرتفعة، تستمر القوانين الليبية في منع تصدير السمك، وهذا يقلق الصيادين ويمنعهم من بيع صيدهم بالنقد الأجنبي  الذي يرتفع باستمرار مقابل الدينار الليبي المهزوز في السوق السوداء للعملة.

ويكتفي بعض الصيادين بإيصال الأسماك خفية إلى ميناء “الكتف” أقرب موانئ تونس، حيث يتم تصديرها كمنتجات تونسية.

صورة

 

20