غسان سلامة: وسيط فشل في صناعة السلم ومنع الحرب

الحوار الصحافي الذي أجراه وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي، الثلاثاء، مع موقع أخبار منظمة الأمم المتحدة، بمناسبة استعداد تونس للانضمام إلى مجلس الأمن الدولي، يكشف بوضوح عن المخاوف التونسية التي ازدادت بعد التصعيد العسكري في العاصمة طرابلس، وعن بقايا الآمال التي تبثها الدبلوماسية التونسية حيال وضعية حرجة على أكثر من صعيد. يبيّن الحوار أنّ تونس تفاجأت بالهجوم العسكري الذي يقوده المشير خليفة خفتر على العاصمة طرابلس، وأن عيونها وأعوانها فشلوا في قراءة المشهدية العسكرية وفي استقراء تداعياتها الممكنة.
وفي الحوار مخاوف من خروج الحالة العسكرية من سياق الإدارة النسبية إلى الفوضى الكلية مع ما يشتمله هذا الأمر من تداعيات وتكاليف إنسانية لا يبدو أن تونس اليوم قادرة على استيعابها جزئيا أو كليا.
وبين تفاصيل الأجوبة هناك تمسك تونسي واضح بالوسيط الدولي غسان سلامة الذي يبدو أنه بات يفكر في الانسحاب من المشهد السياسي الليبي عقب فشله في صناعة السلم أو في منع الاحتراب، وهو الذي قضى ولايته الأممية بين القبائل والعشائر والشخصيات الاعتبارية يبشر بمؤتمر وطني شامل باتت كل المؤشرات تؤكد أنه بعيد كل البعد عن منال الليبيين.
قد يساجل البعض بأنّ مسلكية التسوية السياسية في ليبيا لم تأخذ وقتها الكافي للنضج وهو صحيح جزئيا، وقد يجادل آخرون بأن من طبيعة حالة هجينة لجيش بلا سلطة معترف بها في الشرق وسلطة بلا جيش معترف به في الغرب، أن تنتهي الأمور إلى مكاسرة يبتغي عبرها الجيش حسم السلطة، وهو صحيح أيضا في جوانب أخرى.
ولكن الأصح أن منطق التسويات الذي أُطلق في ليبيا منذ خمس سنوات على الأقلّ كان مجانبا للصواب وللبيئة السياسية في ليبيا وشمال أفريقيا على حد السواء.
بنيت التسويات السياسية الإقليمية في ليبيا، على منطق المغالبة لا المراكمة، فمبادرة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي جاءت على أنقاض اتفاق الصخيرات في المغرب، والحوار الثلاثي بين تونس والجزائر ومصر حول ليبيا استبعد بشكل غير منطقي دولا لها تأثير على المشهد الليبي على غرار المغرب والسودان وتشاد ومالي والنيجر.
وفي الوقت الذي كانت فيه الواقعية السياسية تفرض مناقشة وحسم البنود الخلافية لاتفاق الصخيرات وعلى رأسها المادة الثامنة، اختارت بعض المقاربات الأممية القفز على الواقع والذهاب نحو حزمات سياسية أخرى مثل مسودة الدستور ولجان الانتخابات والمؤتمر الوطني الليبي الشامل.
ولأن من طبيعة الجرح النازف أن يعطّل المسير ويؤجل الوقوف، فقد حالت الإشكاليات العسكرية والقضايا الأمنية دون استكمال ليبيا مرحلة الانتقال الديمقراطي. ودون اعتماده كبش فداء أو شماعة لفشل التسوية في ليبيا، فمن المنطقي اعتبار غسان سلامة مسؤولا ولو بشكل نسبي، على انهيار مسار التسوية في البلاد.
صحيح أن المسؤولية تتشارك فيها العديد من العواصم الغربية والعربية أيضا، وصحيح أن الفضاءات الإقليمية التي عينت مبعوثين لها على غرار الجامعة العربية مع صلاح الدين الجمالي، لم تساعد في حلحلة هذه المحنة، ولكن الأصح في المقابل أن سلامة لم يحسن تأثيث المراحل ولا ترتيب الأولويات ولا تبويب الاستحقاقات، فما قيمة المؤتمر الوطني وسلاح الميليشيات مبعثر بين الشرق والغرب، وما قيمة الانتخابات وسلطة المجموعات الإرهابية لا تزال متحكمة في الجغرافيا الليبية.
لن ننكر حق المبعوث الأممي غسان سلامة في ذكر مزاياه وهي عديدة، وعلى رأسها قدرته على الحوار مع الليبيين وجوارهم وإنعاش فرص التسوية وإصراره على البقاء بينهم في طرابلس، ولكن في المقابل فإن عجزه عن تمثل الأزمة الليبية كأزمة سلاح أولا وتوحيد مؤسسة عسكرية ثانيا، وتشرذم سياسي وقبلي وعشائري ومناطقي ثالثا، كلها عوامل حالت دون تمكنه من تبيّن مفاصل الأزمة وحسن إدارتها.
هل أخطأت تونس عندما اقترحت فصل الملف السياسي عن الملف العسكري، لتنفرد القاهرة بملف توحيد المؤسسة العسكرية في ظل استنكاف جزائري عن الدخول في عش الدبابير، الأمر الذي قد يكون أفقده طابع التجميع والائتلاف؟
لا يمكننا أن نحسم بهذه الفرضية، لاسيما وأن القاهرة رفضت الحسم العسكري في ليبيا، حتى وإن كان بيانها يشير إلى الجماعات الإرهابية الموجودة في الغرب وفي طرابلس بالتحديد، ولكن ما يمكننا أن نشير إليه كامن في أنّ حالة الهُدنة غير المعلنة التي ارتضتها الأمم المتحدة في ليبيا بين مختلف الأطراف العسكرية والميليشيات غير قابلة لأن تتحوّل إلى حالة دائمة ومستمرة في ذهن وتصوّر الكثيرين.
في العمق، تراهن تونس على السيناريو الكردي وتخشى من السيناريو الصومالي. تراهن على سيناريو التدخل الذي قامت به العواصم الإقليمية والغربية وحتى بغداد للحيلولة دون الحسم العسكري، وللدفع نحو تعايش سياسي عسكري شبه فيدرالي في كردستان العراق لا يزال حاضرا إلى يوم الناس هذا. وتخشى كثيرا من سيناريو الصوملة، حيث دخل شريف شيخ أحمد العاصمة الصومالية مقديشو، واحتل العاصمة وانحلت الدولة من بعده إلى يوم الناس هذا.