غزة.. ولادة نظام جديد قائم على الفوضى المطلقة

السؤال الذي يجب أن يطرحه كل سياسي وقائد دولة اليوم ليس فقط: إلى متى ستصمد غزة؟ بل إلى متى سيصمد النظام العالمي قبل أن يصبح كل العالم غزة أخرى.
السبت 2025/03/22
عصر جديد من الحروب

ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد حرب، بل لحظة فاصلة في التاريخ الحديث، حيث تُعاد كتابة قواعد الصراع، ليس فقط في فلسطين، ولكن على مستوى العالم بأسره. ما يحدث هناك ليس قصفا عشوائيا، بل عملية مدروسة لإبادة مفهوم المقاومة، ولإثبات أن القوة العارية يمكن أن تعيد تشكيل المجتمعات بالقهر والتجويع بدلا من المفاوضات والسياسة. غزة ليست ساحة معركة فقط، بل مختبرٌ يتم فيه اختبار إلى أي مدى يمكن أن يذهب العالم في التواطؤ مع الجرائم المنظمة قبل أن ينهار النظام الدولي القائم.

هذه الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بل تطبيق عملي لنظرية جديدة في إدارة النزاعات، حيث لم تعد الحروب تُخاض فقط بالسلاح، بل بتدمير مقومات الحياة نفسها. القصف هنا ليس مجرد عقاب، بل أداة لإعادة هندسة السكان، حيث يُجبر المدنيون على العيش تحت ظروف يستحيل تحملها، ليُصبح الرحيل خيارهم الوحيد. هذه ليست معركة حدود، بل تجربة تهجير جماعي قسري، تتم على مرأى ومسمع العالم بأسره، دون أن يتحرك أحد لإيقافها.

لكن الأخطر من ذلك أن هذا النموذج قد لا يبقى محصورا في غزة. إذا نجحت هذه السياسة هنا، فمن يضمن ألا يتم تصديرها إلى أماكن أخرى؟ هل سيصبح تدمير المدن فوق رؤوس سكانها إستراتيجية مشروعة لإعادة رسم الخرائط السياسية؟ ما يجري الآن ليس مجرد جريمة حرب، بل سابقة دولية ستُغري كل نظام دكتاتوري ومحتل ومجرم حرب في العالم لتطبيق النموذج نفسه.

إسرائيل، التي تعتقد أنها تستطيع فرض إرادتها بالقوة المطلقة، قد تكون في الواقع تحفر قبر شرعيتها الدولية بيدها. فكل صاروخ يسقط على غزة لا يقتل فقط، بل يهدم الأسس الأخلاقية والسياسية التي بُنيت عليها الدولة العبرية. كل مستشفى يُدمر، كل عائلة تُباد، كل طفل يُترك ليموت جوعا، ليس مجرد مأساة، بل دليل إدانة تاريخي سيُطارد إسرائيل لعقود قادمة. لم يعد السؤال عن عدد القتلى، بل عن حجم الضرر السياسي الذي تلحقه إسرائيل بنفسها، وعن اللحظة التي ستتحول فيها من دولة تدّعي الدفاع عن نفسها إلى نموذج عالمي لدولة تمارس التطهير العرقي بغطاء سياسي وعسكري كامل.

العالم اليوم يقف عند منعطف تاريخي خطير. إذا مرت هذه الحرب دون عقوبات، وإذا استطاعت إسرائيل أن تمحو أحياء بأكملها دون مساءلة، فنحن لا نشهد فقط مأساة إنسانية، بل ولادة نظام عالمي جديد قائم على الفوضى المطلقة. في هذا النظام، لن يكون هناك معنى للقانون الدولي، ولن يكون هناك وزن للمنظمات الحقوقية، بل فقط من يملك القوة، يملك الحق.

السؤال الذي يجب أن يطرحه كل سياسي وقائد دولة اليوم ليس فقط: إلى متى ستصمد غزة؟ بل، إلى متى سيصمد النظام العالمي قبل أن يصبح كل العالم غزة أخرى؟

9