غدر الفن والمتزمتين

قد نكون تطورنا بفعل سياق التطور الحضاري العالمي، لكننا مازلنا نكتشف بيننا أناسا يدافعون عن الانغلاق ويرفضون كل ما يمنح المرأة حرية الاختيار.
الأربعاء 2024/03/20
مسيرة استمرت لأكثر من خمسين عاما

تقول الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي واصفة الرقص “تعوّدت النساء منذ قرون، على حمل رغبتهنّ كقنبلة موقوتة، مدفونة في اللاوعي. لا تنطلق من كبتها إلا في الأعراس، عندما تستسلم النساء لوقع البندير، فيبدأن الرقص وكأنهن يستسلمن للحب، بخجل ودلال في البداية.. فتستيقظ أنوثتهن المخنوقة تحت ثقل ثيابهن وصيغتهن.. يصبحن أجمل في إغرائهن المتوارث.. تهتز الصدور وتتمايل الأرداف، ويدفأ فجأة الجسد الفارغ من الحب”.

وبالعودة إلى التاريخ، سنجد أن الرقص كان أول لغة للبشر، وهي ربما اللغة الأكثر سيميائية ودلالية حتى بعد ظهور أشكال التواصل الأخرى. وكل شعب يرقص بطريقته، حتى أن البعض من الشعوب اخترع رقصات ثائرة ضد الظلم والقهر، وأصبحت اليوم رقصات عالمية. لكن ما الذي يجعل الرقص محبوبا مذموما في المجتمعات العربية؟ وما هذا التشفي الذي يظهره الكثيرون تجاه الراقصات خصوصا والفنانين عامة في آخر أيام حياتهم؟

منذ أيام، تكرر الراقصة الشهيرة نجوى فؤاد على مسامعنا عبارة “بشرب كاسات غدر الفن حتى الآن، وتعبت وكافحت كتير جدا في حياتي وتعرضت للخيانة والسرقة، وأغلب من أذوني كانوا من الوسط الفني”. كلمات مؤلمة نطقت بها راقصة مصر الأولى معلنة عن حاجتها النفسية والجسدية للمساعدة بعد أن أفنت عمرها في الفن دون أن تدخر الشيء القليل لآخر أيامها.

الفنانة التي رقصت وتمايلت إلى جانب أشهر الفنانين، وشاركت طوال مسيرة استمرت لأكثر من خمسين عاما في عشرات الأعمال السينمائية، وكانت أكبر الداعمين لإطلاق مهرجان القاهرة السينمائي، هي اليوم تطلق سهام اللوم على كل من دعمته في بداياته الفنية وكان ناكرا للجميل. خرجت علينا لتطلق تصريحات جريئة تنتقد فيها الراقصات في مصر “في أيامنا” وغدر الأصحاب، وتضحياتها لمساعدة وطنها، التي يرى فيها بعض الجمهور جرأة وعريا فادحا.

حجة الفنانة في ذلك أنها من جيل عمل كثيرًا من أجل الوصول إلى النجومية وتحقيق النجاحات، “احنا خربشنا عشان نبقى نجوم”، في حين ترى أن الجيل الحالي لا يحارب من أجل صناعة النجومية، مؤكدة أنه بعد تمثيل مسلسلين فقط ينتشر ويكون معروفا لدى الجميع، حيث قالت “دلوقتي النجومية سريعة مسلسلين تلاتة ياخدوا 3 و4 مليون.. أعلى أجر زمان كان 8 آلاف جنيه”.

حال نجوى فؤاد، تذكر بالكثير من الفنانين الراحلين وبحكاية الراقصتين التونسيتين الشهيرتين “زينة وعزيزة” اللتين هزتا الوسط الفني والسياسي خلال الخمسينات من القرن الماضي لكنهما بعد اعتزال الفن عشن حياة الفقر والخصاصة، ولم تلتف إليهما الجهات الرسمية.

تحظى نجوى فؤاد في الوسط الفني وكذلك زينة وعزيزة بالاحترام، في المقابل لا نجد هذا الاحترام ذاته تجاه الراقصات في زمننا، فاليوم عدا عن أن المهنة اكتسحتها الراقصات الغربيات، تجد تعليقات الجمهور عليها كنوع من الاستنكار، فأغلبهم يطالب المرأة بالتستر والاحتشام وينهاها عن ممارسة الرقص لأن الغالبية تعده حراما، وذنبا كبيرا. ما الذي تغير في المجتمعات العربية كي تغوص أكثر في التشدد الديني والفكري؟

قد نكون تطورنا بفعل سياق التطور الحضاري العالمي، لكننا مازلنا نكتشف بيننا أناسا يدافعون عن التشدد والانغلاق ويرفضون كل ما يمنح المرأة حرية اختيار ما تفعله في نفسها وجسدها. ولماذا جسد المرأة وحده هو من تسلط عليه الأنظار؟ الإجابة أن الجميع وفي مقدمتهم النساء مازلن يصدقن الأسطورة التي تقول إن الله خلق المرأة متعة للرجل وإن الكون كله يدور حول آدم وحده.

لا أجد وصفا لكل هذا التزمت والمتزمتين إلا نصيحة نيتشة التي يقول فيها “تجنَّبوا هؤلاء المتزمتين! إنهم نوع بائس مريض، جنس رعاع، ينظرون بخبث إلى هذه الحياة، وعينهم عين سوء على هذه الأرض.. تجنَّبوهم! أقدامهم ثقيلة وقلوبهم تختنق رطوبة، لا يعرفون الرقص، فكيف للأرض أن تكون خفيفة بالنسبة إلى هذا النوع إذًا”.

18