غاري لينيكر الصحافي الشجاع

ما حصل لغاري لينيكر يعيد مرة أخرى علاقة الصحافي مع طبيعة المؤسسة التي يعمل فيها، بينما نحن نتحدث هنا عن يد بريطانيا الناعمة التي تزعم أنها رائدة قيم الحياد في التاريخ الإعلامي!
الاثنين 2023/03/20
تعليق صب الزيت على النار التي كانت مشتعلة أساساً

ليس لأن غاري لينيكر يحصل على أجر باهظ جدا من هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”، دع عنك الملايين التي تغدقها عليه الإعلانات. بل لأنه صحافي شجاع مثلما كان لاعباً “لم يحصل على بطاقة صفراء أو حمراء خلال 600 مباراة”، لم يتنازل عن الجوهر الإنساني في موقفه، ذلك ما جعل “بي.بي.سي” تنهي الأمر بتسوية مقبولة بالنسبة إليها، بعد أن رفض الاعتذار أو التراجع عن تعاطفه مع الأشخاص الذين يعانون من خيبة الأمل ويتوقون إلى حياة جديدة يحصلون فيها على الكرامة المهدورة.

لقد قارن خطة الحكومة البريطانية بشأن المهاجرين بخطايا ألمانيا النازية، واصفاً في تغريدة على حسابه الذي يحظى بمتابعة الملايين، الطريقة التي يعامل بها هؤلاء اللاجئون الشباب بالعنصرية وعديمة القلب. فأوقف برنامجه، لكنه ظهر بأناقة المنتصر “عادة ما يرتدي ملابس غير رسمية في تقديم برنامجه ‘مباراة اليوم'” بين جمهور مباراة ليستر سيتي وتشيلسي التي أقيمت بنفس يوم إيقاف برنامجه.

أنا أحب غاري كإنسان ومقدم برنامج رياضي وأتذكر تعريفه الشهير قبل سنوات للعبة بأن كرة القدم تقام بين فريقين من 11 لاعباً، لكنها دائماً تنتهي بفوز ألمانيا! ومع أن هذا التعريف كُسر لاحقاً وفق تطور كرة القدم بالنسبة إلى المنتخبات التي تنافس الفريق الألماني، إلا أن فلسفة التحليل بالنسبة إلى غاري تصاعدت، فهذا اللاعب السابق ومقدم البرامج الحالي يقدم للجمهور منذ عام 1999 واحداً من أمتع البرامج التي تلخص أحداث كرة القدم في نهاية الأسبوع. بينما تحول في حسابه على تويتر إلى معلق سياسي يتعاطف مع محنة اللاجئين، فوجد الملايين حول العالم لا يترددون عن دعمه.

تأملْ احتفاءه برقصة لاعب المنتخب المغربي سفيان بوفال مع والدته في مونديال قطر، لتدرك أنه مخلص لما يؤمن به كقيم أخلاقية.

لذلك كتب بعد التسوية وإعادة برنامجه “تصوري الأخير، مهما كانت صعوبة الأيام القليلة الماضية، فهي ببساطة لا تقارن بالاضطرار إلى الفرار من منزلك بسبب الاضطهاد أو الحرب والبحث عن مكان بعيد تلجأ إليه. إنه لمن دواعي السعادة متابعة التعاطف من الكثير منكم مع محنتهم”.

في حقيقة الأمر، كل ما حصل لا يمثل مشكلة لغاري لينيكر كصحافي، ولا يعني فقدان عمله أي شيء بالنسبة إلى حياته، بل أن ما حصل يعيد مرة أخرى علاقة الصحافي مع طبيعة المؤسسة التي يعمل فيها، بينما نحن نتحدث هنا عن يد بريطانيا الناعمة التي تزعم أنها رائدة قيم الحياد في التاريخ الإعلامي!

ذلك يعني أيضاً أن تعليق غاري قد صب الزيت على النار التي كانت مشتعلة أساساً. حيث لم تتفق كل وسائل الإعلام في العالم على مدونة قواعد واضحة بشأن ما يكتبه الصحافيون على منصاتهم الخاصة وعما إذا كان ذلك يمثل مشكلة للمؤسسة أم يبقى مجرد تعليق يمثل الصحافي نفسه.

تزعم “بي.بي.سي” أن الأمر متعلق بحيادها، لكنه يتعلق بالنسبة إلى كثيرين آخرين بحرية التعبير. بينما ما زالت جملة الروائي جورج أورويل الذي عمل لسنوات في “بي.بي.سي” منحوتة على تمثاله أمام مبنى الهيئة في لندن “إن كان هناك أي معنى للحرية، فهو أن تملك الحق في إخبار الناس ما لا يريدون سماعه”.

لم يكن أورويل إلا محاولاً أن يكون حيادياً بتخليص ذاته من التأثير على كونه صحافياً في جملته “هناك أوقات لا يستطيع فيها الصحافي تجنب كونه جزءا من القصة”، وبعد ثمانين عاماً من مغادرته لهيئة الإذاعة البريطانية، تجد المؤسسة نفسها غارقة في أزمة عميقة وليس مجرد نقاش حول آراء مقدم برامج رياضية.

18