عينة رمزية لجيل فني مغربي يمتلك أسئلته وقلقه وصبواته

فنانو "مدرسة تطوان التشكيلية" يخلقون عوالم نظرة لا تخفي انتماءها.
الخميس 2019/12/19
رحابة التعبير التشكيلي

لكل جيل إبداعي رهاناته وأسئلته الفنية والفكرية الخاصة به، ومن المعتاد أن يلتقي عناصر من جيل واحد عند نقاط محددة في مشاريعهم الإبداعية ما يجعلهم يشكلون جماعات تتقارب في الرؤى ولكنها لا تتطابق. من هنا ظهرت العديد من الجماعات الفنية والأدبية، وهذا لا يزال مستمرا إلى اليوم رغم طغيان الفردانية في الظاهر.

تعود الأعمال التشكيلية التي تقدمها مجموعة الخمسة: إنصاف العسري وأميمة كرسيفي وخديجة الجايي ومحمد نجمي ومحسن رحاوي،  بغاليري كينت بطنجة في معرض بعنوان “من العين”، ينتظم ما بين 13 ديسمبر الجاري و13 يناير القادم، إلى حاضنة فنية هي المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، وإلى ما اتصل بها من تحولات في الرؤية والتفكير والاختيارات الجمالية، لما سمي بعد ذلك في أدبيات تاريخ الفن بالمغرب  بـ”مدرسة تطوان التشكيلية”.

من هذا المنطلق يحلو لي أن أتمثل هذه المجموعة بوصفها نتاجا لمؤسسة أكاديمية، وحصيلة لمدرسة فنية، في أكثر حلقاتها التصاقا بالراهن التشكيلي للفن المعاصر بالمغرب.

جيل فني

لعل ما يلفت الانتباه في أعمال مجموعة الخمسة منذ الوهلة الأولى هو رهانها الكبير على تطويع قدرة الأداة المألوفة والمتداولة، لاختيارات صعبة، ضمن حقول أنهكتها المهارات الراسخة، فمن الرسم إلى التصوير إلى النحت المعاصر إلى التجهيز تتوالى المقترحات المراهنة على تنويع السند والشكل والأسلوب لالتقاط موضوعات تتخطى نطاق الدوائر الذاتية والمحلية، والانخراط في أسئلة الهوية والصراع والاستهلاك والاحتراق والتآكل والذوبان والتشويش المؤبد لرؤية الأفراد للمحيط وللآخرين.

لمسات لشيء هارب من قاعدة لا تظهر
لمسات لشيء هارب من قاعدة لا تظهر

ترتد علاقتي بأعمال هذه المجموعة إلى مرحلة إشرافي على مشاريع تخرج بعضهم ومناقشتي لمشاريع البعض الآخر، ولعل في مواكبتي الطويلة لأعمالهم ومصاحبتي لمشاغلهم وأسئلتهم ما يجعلني أزعم أنهم يمثلون، إلى حد ما، عينة رمزية لجيل فني يمتلك أسئلته وقلقه وصبواته، التي لها نظائرها العديدة في حاضر الفن المعاصر بالمغرب وخارجه.

تلتقي المجموعة في ارتكازها كلها على الرؤية التمردية السجالية تجاه المحيط والزمن، بقدر ما تلتقي في حسها الاتهامي/ الصدامي، الذي لا يختلف في عمقه عن مختلف الأشكال الهجائية للفن المعاصر المجاوز للتحفة، لكن ما يجدر التنويه به في هذا السياق تحديدا، هو أن الانحياز التعبيري لم يعمد إلى الاتكاء على الفكرة العزلاء، وإنما كان الرهان على الجاذبية التعبيرية أساسيا في تقديم مقترحات لا تخلو من عمق.

عوالم نضرة

في البداية تطالعنا أعمال خديجة الجايـي مزيجا من التركيب والتصوير باللهب على سند ورقي؛ لحاءات بعضها فوق بعض، لأديم تخترقه أوهاد داكنة، تتجلى شبيهة بمجرى حمم بركانية على قشرة رخوة. وسطح أبيض يقتبس تجاعيده المشعّة من وهج البرق. يبدو السطح أقرب ما يكون إلى سماء مقلوبة، أو في وضع أرضي، حين تتأملها لا يكون بمقدورك كف الذهن عن مقارنة الأخاديد المتفحمة في اللحاء الظاهر بما  يناظره من اختراقات ماء النار للجلد الناعم المسربل للوجوه والأجساد.

تراهن خديجة الجايي في عملها على إجلاء التشوهات الداخلية وجعل ما يعتمل في وجدان الأفراد من عذاب خارق ينكشف عبر ندوب مرئية، هكذا تعري نوازع الكتمان والمداراة والخرس، وما يتصل بها من موانع وكوابح، وما قد يستتبعه اختراقها من عقاب، هو الذي ينهض حائلا، في أحيان كثيرة، دون تجاوزها، قبل أن تنحفر تدريجيا أخاديد في الداخل العميق، هي نفسها التي تحول التركيبات إلى أشكال وأحجام وكتل بصرية صاعقة وموجعة.

والشيء الأكيد أن فكرة الطبقات وتآكلها واحتراقها، تنهض بدور أساسي في إبراز خضوع الكتلة الحية لمراتب من الحجُب القابلة للاختراق، وفي هذا السياق أعتقد أن تطوير مفهوم الطبقات بتوسيع مداراتها لتشمل الجسد الجماعي ومتخيله وتوقه إلى تخطي العتبات والموانع، من شأنه أن يضعنا على عتبات جديدة في فهم هذا الإنجاز التركيبي.

وغير بعيد عن عوالم خديجة الجايي تتجلى تركيبات ورسومات محسن رحاوي المدثّرة بالسواد، استعارات لفناء الألوان والحياة، والقدرة على مكابدة العيش، يستند التشكيل على تكوينات رمزية صغيرة: الجراد، والأرانب، وأحجار فحم منجّمة، معاولُ ومطارقُ، وقفازات وحقائب، منقوعة في الغبار الحالك، وأرغفة سوداء، كتل لا متناهية، مرسومة بوجع ناطق على الورق، ومركبة من نحاس وحديد، تأخذ الناظر إلى مناجم استعارية على السطح، حيث عوالم العمل المُفني.

Thumbnail

تعيد التكوينات الحالكة لمحسن رحاوي، تمثيل حكاية المدينة الصغيرة الموسومة بـ”جرادة”، تخيّلها إلى الأذهان قدرا مرزءا لا موطن حياة، حشرات تنوء تحت الفحم، دعامات تحمل أسقف السراديب تنبت لها أجنحة بيضاء، تتجلى أشبه ما تكون بطائر حلمي، وأرانب منبهقة من حبر قاتم، تماثل من حمله القدر للمنجم، كلاهما يعيش بالحفر، وكلاهما يستقر هناك. لا تقتصد الرسومات والتركيبات المنجزة في الإيحاء بالقسوة والمرارة، وبتكرار المشاهد تتداعى أحاسيس الغرق في الجحيم.

وسرعان ما تنتشلنا أعمال محمد نجمي من وهدة التآكل الجحيمي، بتشكيل لعبي يتنامى عبر لوحات وتجهيزات تعيد تدوير علب التصبير القصديرية الفارغة، دوائر ومستطيلات ومربعات ومثلثات تتراكب على سند خشبي يناوب بين الأبيض والأسود؛  كولاج يحتفظ للمعدن المستعمل بنتوئه وغرابته، ومقامات لونية تختصر في النحاسي والفضي، تبدو أحيانا أشبه ما تكون بعملات معدنية، ثم عبر تركيب طبقات من قطع ملونة تستقيم المتوازيات الهندسية لعالم مجبول من صلابة وعراك مؤبد على الثروة. قبل أن ترتصف أمام أعيننا تركيبات معدنية صغيرة لطائرات حربية ومدرعات ودبابات، لعب أطفال مرتجلة من سقط المتاع، لتخييل العنف المتدفق عبر أصقاع الكون.

هي تشخيصات عما يجري من انتقال دوما من اللعب إلى الجد، للبقاء، والاسترسال في العيش، حيث السعي إلى الاكتساح والتنازع على السلطة، لا يفتأ يتفاقم كما تتضاعف صوره الغارقة في المجاز التهكمي؛ يُظهر محمد نجمي براعة في جعل المعدن المستعمل المنذور للقمامة، يجدد نضارته ويستحيل إلى تكوينات صقيلة، لا تفتقر إلى خيال حريف.

في المقابل تقدم رسومات أميمة كرسيفي المنجزة برهافة كائنات هلامية، مشتقة من قزحية العين، تتحول إلى بؤر مجردة منطلقة في الهواء، كأجنحة هشة وشفافة، متدفقة في هوسها بالانطلاق، ومفارقة المنطلق. تبدو لمسات لشيء هارب من قاعدة لا تظهر. في تشكيلات الحفر أيضا تتجلى بؤرة العين بما هي دوائر مخترقة بخطوط تنحى لتعيد تسطير دوائر منفلتة. لا شيء يوهم بالصلابة أو الثبات في مشهد رخو.  تشتغل أميمة الكرسيفي على الرؤية وامتناعاتها، والبصيرة وممكناتها، وما قد تفضي إليه من التباسات ولهذا تتجلى تشكيلات الحفر والرسومات أبعد ما يكون عن الصفاء، عائمة في السّديم.

وتغلق أعمال إنصاف العسري دائرة هذا المعرض المشترك باقتراحات تمزج بين منحوتات ورسومات وتصاوير على السيراميك،  تجتبي الجسد من ظاهريته الصلبة، لتغرقه في احتمالاته الممتنعة عن الكشف، هكذا تطالعنا أجساد لكائنات مختصرة في ساقين، تحملان جدوعا وأطرافا معتقلة في أغشية ملونة، لا تبرز إلا الذوبان الجسدي في أتون الحجب. عوالم صغيرة منكفئة على ذاتها، واضعة الأجساد في دائرة العماء الشخصي، ولوحات رخامية زرقاء، لأفراد بلا ملامح، ولا كنه، خطوط مشوشة على السند الصلب للهيئات الهشة، ممسكة بأطراف بعضها في حلقة تنبت من دوائر ضيقة، مناخ كابوسي لا ينفصل عن الجو العام لأعمال المعرض المجتبية لمعالم الاحتراق والتلاشي والعنف وتشوش الرؤية.

لقد شكلت مختلف تلك الاقتراحات عتبة لعوالم نضرة، من فن لا يخفي انتمائه إلى صبوات التجريب الأسلوبي، ورهانه على الموازنة بين الانحياز إلى المعنى، والتوسل بالشكل الجذاب، ذلك الذي يجعل منها أعمالا للتداول لا للتعبير المؤقت، واقتراحات تفارق مرتعها الأصلي القادم “من العين” / “المدرسة”، إلى رحابة التعبير التشكيلي.

15