عيد اليحيى أنثروبولوجي سعودي يعيد تكوين الهوية

"الإرث الحضاري للسعودية" هو ما يتحدث عنه باستمرار، معتبراً إياه مشروعه الشخصي، وهو ما قال إنه قد جاء ذكره على لسان الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز الذي كان يتابع حلقات برنامجه “على خطى العرب” حين اتصل به مشجعاً إياه على مواصلة هذا البحث الذي تعرضه قناة العربية، طالباً مشاهدة ما فاته من حلقات البرنامج.
عيد اليحيى، الباحث السعودي الذي صنع حياته المعرفية بيده، ولم يكن اتجاهه نحو هذا الشكل من البحوث والاهتمامات، متأتياً من صدفة، أو سياق تعليمي لا يد له فيه، فهو من ولد ونشأ، بداية السبعينات، في بريدة في قلب اليمامة السعودية، متلقيا معارفه كما غيره من الطلبة السعوديين، متخصصاً في اللغة العربية من جامعات منطقته، ليصبح مدرساً عادياً في مدارس الحرس الوطني، قبل أن يقرّر فجأة التخلي عن شكل الحياة هذا، والسفر بعيداً للدارسة على حسابه الخاص، في جامعة ويستمنستر في لندن، مختاراً العلوم السياسية والدبلوماسية، ليحصل على الدكتوراه من جامعة إكستر لاحقاً، فيبدأ مشروعه الخاص في النضج بما يكفي للتعبير عن ذاته في مشاريع ومعارض بصرية ذات اهتمامات خاصة في قلب لندن، دارت حول التراث الاجتماعي والسياسي لبلاده وإنسانه، ليعود إلى بلاده مقدماً مشروعه الكبير الذي توزع ما بين التأليف والابتكار والتأسيس العلمي لزوايا جديدة ومختلفة من التفكير.
مشروع اليحيى
ينشغل عمل اليحيى بثلاثة أسس، يؤمن أنها هي ممّا تقوم عليها الدولة الوطنية المتقدمة، ويقول عنه النقاد، إنه أول من قدّم ذلك كنظرية متكاملة على مستوى العالم، معتبراً أن الدولة تحتاج الثقافة والتربية والفن معاً، داخل المجتمع، ليتحقق ما سمّاه اليحيى بمفهوم “السعادة الوطنية” التي تجعل من الفرد إيجابياً تجاه وطنه، ولغته وتاريخه، وهو جوهر الهوية الوطنية في الأمن الفكري والاقتصادي في المجتمعات المتقدمة.
الأسس الثلاثة تلك لـ”السعادة الوطنية” كما يقول اليحيى تتطلب تعريف المجتمع بـ”أنثروبولوجيا” بلاده، و”أركيولوجيا” بلاده، و”جيولوجيا” بلاده، فيتقاطع بذلك مع نواحٍ من نظريات الدكتور جمال حمدان صاحب “عبقرية مصر” ولكن هذه المرة في زمن الصورة، بحيث يتمكن من تطبيق تلك النظرية عبر الشاشة في “على خطى العرب” منطلقاً من الأماكن التي عاش فيها الشعراء الجاهليون العرب الكبار والمخضرمون، وذكروها في قصائدهم، فيزور تلك المناطق على الخارطة، قاطعاً مع فريق عمله عشرات الآلاف من الكيلومترات لتتبع تلك الخطوات التي سارت وعاشت على الأرض التي صار اسمها “المملكة العربية السعودية”.
الأقمار الصناعية والموروث الشعبي
بلغة بسيطة أقرب إلى العامية، وعن خبز الشعير والأثل ونار الغضى والرمل، وبالاستعانة بصور من الأقمار الصناعية، والتقنيات الحديثة في المونتاج والتركيب البصري والمؤثرات المختلفة، يتجول مشاهد “على خطى العرب” في أرجاء السعودية، ماراً بطريق امرئ القيس في رحلته إلى الشمال، بعيداً عن مملكة والده كندة، في قرية الفاو، حيث يعرض اليحيى كيف خرج جد امرئ القيس “آكل المرار” مؤسساً مملكة سيضيّعها حفيده، ويضيّع حياته بعدها في البحث عنها.
وفي مملكة الفاو، تعرض كاميرا اليحيى كيف تبدو المنطقة الأثرية مهملة، عادية، مهجورة، منتظراً حارس المملكة الوحيد، الذي يتأخر عليه ساعات، لنكتشف كنزاً أثرياً خلف سور الإهمال. ماشياً عبر سلسلة جبال طويق التي تمتد لألف كيلومتر قبل أن تغيب في رمال الربع الخالي.
مشروع عيد اليحيى يترحل بالمشاهد عبر معارفه الخاصة، وكذلك واقعه اليومي الذي لا ينسى اليحيى التذكير به، بين الوقت والآخر، جدير بالاستمرار، وصناعة نسخ عنه في بلاد العرب العديدة، لتخليق المشروع العربي سياسيا من جديد، دون الاستناد إلى أيديولوجيا هزيلة أو شعارات رددتها الأنظمة التي ركبت على فكرة العروبة واستغلتها كما استغلت غيرها
وعلى الخطوات التي سار عليها امرؤ القيس مشى اليحيى في جبال المقرات، ثم شمالًا إلى جبال الحومل في عالية نجد، متجهاً نحو جبل يذبل، ثم اتجه غربًا إلى محمية محاذا و من بلدة ظلم إلى محاذة الصيد، و تقع قبل الطائف بـ250 كليومترًا، ولم يتردد اليحيى في اللحاق بالحيوانات البرية التي ذكرها امرؤ القيس في شعره.
الشنفرى هو الآخر كان أحد أهداف بحث اليحيى، بدءاً من الطائف على طريق أبها ومدينة الباحة ، ثم إلى الطائف والهدى إلى مكة حيث جبال السراة، ليعثر على “تأبط شراً”، ثم قرية صفينة أرض “الخنساء” إلى “قاع السباق” وأرض عنترة.
جالساً بين كثبان رمال عنيزة على مقربة من شجرات الغضى التي حنّ إليها مالك بن الريب في قوله “ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً/بجنب الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا/فَليتَ الغضى لم يقطع الرّكبُ عرْضَه/وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا/ لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى/ مزارٌ ولكنَّ الغضى ليس دانيا”.
حرب زهير على الحرب
ولا يقل إدهاشاً منظر “المتثلم” الصخري الذي عثر عليه عيد اليحيى على الأرض، قرب قرية غمرة، والذي ذكره زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة، “أمن أم أوفى دمنة لم تكلمي/ بحومانة الدراج فالمتثلم” قرب قرية مدرّج، والتي زارها زهير بعد تسعين عاماً، متذكراً “ليلى” التي طلقها لأنها لم تكن تنجب ذكوراً، وبقي يحن إليها، يقول اليحيى “كان زهير أول من قال إن الحرب ليس فيها منتصر، قبل بسمارك الألماني، قال ذلك عن حرب داحس والغبراء”، حين قال أطول شعراء العرب عمراً “وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم/ وما هو عنها بالحديث المرجم/ متى تبعثوها تبعثوها ذميمة/ وتضرى إذا ضريتموها فتضرم/فتعرككم عرك الرحى بثفالها/ وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم”.
ويرسم عيد اليحيى على يده الوشم الذي ذكره طرفة بن العبد، قبل أن يعثر عليه حقيقياً في مكان وجوده، الذي رآه طرفة ذات يوم قبل قرباة الألفي عام، عارضاً ذلك للمشاهدين في أول مرة في تاريخ العرب، حيث يرون ديوانهم (الشعر) رأي العين.
بدأت خطوات اليحيى متتبعاً خطى العرب، انطلاقا من عاصمة بلاده الرياض مررواً بوادي الدواسر حتى جبال القهر في الجنوب الغربي من تثليث مرورًا بوادي طلحام في يدمة، ونحو الشمال الغربي إلى بيشة و مجامع الهضب حتى جبال عسير عبر التشكيلات الجيولوجية العملاقة وصولاً إلى الرياض من جديد، ثم القصيم ثم عبوراً على ساحل الخليج العربي ليعود من جديد إلى العاصمة الرياض قاطعاً مسافة 24 ألف كيلومتر، من أجل برنامج تلفزيوني كان من سبقوه يعدونه في مكاتبهم المكيفة وفي الاستوديوهات دون أن يبذلوا جهداً يذكر.
يستعمل عيد اليحيى تعبير “البلدانيين العرب” حين يشير إلى بعض من استند إلى وثائقهم في رحلته، مثل ياقوت الحموي، والهمداني، أو أولئك المؤرخين مثل محمد بن بليهد، وحمد الجاسر، وسعد بن جنيدل، وعبدالله بن خميس، ومحمد العبودي، فيبدو عمله موثقاً من النواحي النظرية والعملية معاً، شديد الإثارة والشد.
وكان عيد اليحيى قد سبق إلى إصدار عدد من المؤلفات التي تسير على ذات النهج، مثل كتابه “الرحالة في الجزيرة العربية: المكتشفون البريطانيون في المملكة العربية السعودية”، باللغة الإنكليزية، وكذلك كتاب “أصوات الجزيرة العربية في عيون أعظم الرّحالة”، باللغة الإنكليزية أيضاً، وله في الطريق إلى النشر مشاريع إضافية مثل “أنغام الجزيرة العربية”، و”الوسطية في المملكة العربية السعودية”، باللغة الإنكليزية.
السعودية جيوسياسيا
الجزيرة العربية، أصل العرب ومنبعهم، وهي بثقلها العربي ذاك، إضافة إلى كونها أرض المقدسات الإسلامية، تشكل محط أنظار واهتمام النطاق المحيط بها، بدءاً من أول شبر خارج حدودها السياسية، وصولاً إلى آخر أرض سكنها العرب في خرائط العالم، وهذا ما يجعل جغرافيتها موضع اهتمام إشكالي ونزاع بين تيار ديني رأى أن الآثار من الدوارس، وعلينا أن نضعها جانباً ولا نهتم بها، وآخر حداثي، يرى ضرورة أن نعيد الاعتبار لتلك الآثار، ولا نهملها، ونستثمرها سياسياً ووطنياً.
اليحيى يرحل إلى الأفلاج، وهي بلدة في القصيم، حيث عاش قيس وليلى، ودارت الحكاية، وهنا يبدأ خطاب آخر في التأثير على روع المشاهد، في التفاصيل والأبيات العذبة، وحقيقة أنها كانت موجودة ولم تكن مجرد قصيدة مطلوب حفظها في كتاب مدرسي
عيد اليحيى من التيار الثاني، الذي بدأ بالكشف عن تلك الآثار، للبحث في الإنسان منطلقاً من المكان، وعينه على المستقبل وليس الماضي، ذلك المخزون الإنساني الثري، هو ما يتوجب جمعه لتعزيز الهوية الوطنية، وتوجيهها نحو مشروع التنمية الإنسانية الدائم، وهو ذاته ما يجعل من ذلك المشروع جاذباً ومؤثراً في غيره من شعوب المنطقة، لا سيما وأنه يخاطب وجدانهم مثلما يخاطب وعيهم المتقدم، فلا تغيب عنه قصة الحب الأكثر شهرة في تاريخ العرب، قصة قيس وليلى.
عاصمة الحب الأولى في العالم
يترحل اليحيى إلى الأفلاج، وهي بلدة في القصيم، حيث عاش قيس وليلى، ودارت الحكاية، وهنا يبدأ خطاب آخر في التأثير على روع المشاهد، في التفاصيل والأبيات العذبة، وحقيقة أنها كانت موجودة ولم تكن مجرد قصيدة مطلوب حفظها في كتاب مدرسي.
قال اليحيى “نحن في قرية الغيل، عاصمة الحب الأولى في العالم، على بعد 350 كيلومتراً عن الرياض، قرب قرية ليلى التي سميت على اسم ليلى العامرية، وقرب جبل التوباد، الذي ذكره قيس بن الملوح في شعره، في قوله: وأجهشت للتوباد حين رأيته/ وكبّر للرحمن حين رآني”. وكان قيس وليلى يجلسان في ذلك المكان، ويتبادلان الشعر والغزل، وقد كتب على صخرة بجوار أحد الكهوف بيت لإحدى قصائد قيس، عندما مر بجوار جبل التوباد، وتذكر ليلى، عندما كانا صغيرين يرعيان البهم على سفوح جبل التوباد.
ثم ينتقل اليحيى إلى الخانق في جبال القهرة، للبحث عن لبيد بن أبي ربيعة حيث درب البخور، دون أن ينسى ليلى الأخرى في وادي الدواسر، ليلى الأخيلية، التي قال عنها توبة بن الحمير، قصيدته الرائعة، زارت ليلى قبره، ذات يوم قائلة “والله لا أبرح حتى أسلم على توبة”، فوقفت أمام القبر وقالت “السلام عليك يا توبة”. ثم قالت لقومها ما عرفت له كذبة. فلما سألوها عن ذلك قالت أليس هو القائل “ولو أن ليلى الأخيلية سلمـت/ علـيّ ودوني تربـة وصـفائح/ لسلمت تسليم البشاشة أو صاح/ إليها صدى من جانب القبر صائح”، فطار من جانب القبر طائرٌ كان قريباً، الأمر الذي أدّى إلى أن ينفر منه جمل ليلى، فوقعت عنه وماتت على الفور.
مكان وأديان وذاكرة
وصل عيد اليحيى إلى خيبر ثم إلى حرة النار، وتيماء حيث “السموأل” الشاعر اليهودي الذي ضحى بجماله وفاءً لحفظ أمانة امرئ القيس. وعبر نحو “هداج الماء” أكبر وأقدم بئر في جزيرة العرب، ثم جنوبًا باتجاه حائل حتى جبل محجة، وإلى الشمال نحو جبلي رخام ومحجر اللذين ذكرهما لبيد، ثم جبل الموقدة بلدة حاتم الطائي.
عبرت رحلة اليحيى إلى جبل “طويق” الذي ذكره الشاعر عمرو بن كلثوم، و جبل “خنوقة” ثم إلى الزلفي للوقوف على حكاية “الحطيئة”.
مشروع كهذا، يترحل بالمشاهد عبر معارفه الخاصة، وكذلك واقعه اليومي الذي لا ينسى اليحيى التذكير به، بين الوقت والآخر، جدير بالاستمرار، وصناعة نسخ عنه في بلاد العرب العديدة، لتخليق المشروع العربي سياسياً من جديد، دون الاستناد إلى أيديولوجيا هزيلة، بل إلى واقع معرفي وإنساني مكين كان حقيقياً وليس مجرد شعارات رددتها الأنظمة التي ركبت على فكرة العروبة واستغلتها كما استغلت غيرها.