عن ذلك التراب الحي

قبل سنوات طويلة، وبينما كان رجلٌ أنيق تعلو الكآبة ملامح وجهه يعبر سوقا شعبية، حاملا أكياسا ثقيلة بكلتا يديه، تزيد حمله من الهم ثقلا، رن الهاتف المحمول لأحد الباعة المتجولين على بعد أمتار منه. وإذا به يسمع لأول مرة بعد زمن غابر أغبر، لحنا لأغنية فجّرت الدمع من عينيه الاثنتين، واصل طريقه دون أن يقوى على كفكفة دموعه، بينما كانت السابلة تنظر إليه بدهشة. لم يكن أحد يدري أن هذا الرجل ذا الشاربين المخطوطين بعناية، كان ملحن ومغني تلك الأغنية الفريدة.
بعد أن مرت السنين، صارت تلك الأغنية “النشيد الوطني الشعبي” لبلاد ذلك الرجل. وباتت تغنى حتى في الأعراس، رغم محتواها الوطني الحماسي، ورغم ارتباطها بفترة الحرب. لكن الشعب تناولها دون نسبتها إلى أي مرحلة زمنية، اعتبرها بالفعل نشيدا نابعا من الشعب وسيعود إليه. واليوم لا يمكن أن نحصي عشرات الملايين من المرات التي يعاد بها بث الأغنية ذاتها يوميا لتملأ ساحات العالم العربي.
حال صاحب هذه الأغنية كحال أغنيته، الموسيقار العراقي علي عبدالله، صاحب لحن “يا گاع ترابچ كافوري” التي تقض اليوم مضجع غيلان العراق وإيران صباح مساء.
أنشودة تتغنى بالتراب بأبسط الجمل الموسيقية وأكثرها مخاطبة للروح والوجدان، سمح الناس لأنفسهم بتغيير بعض كلماتها لتشبه تضاريس ساحة التحرير والأبنية المجاورة لها. وصارت الأغنية تقول “هاي للمرشد ودّيها. بغداد إلنا وما ننطيها”.
ما يكشفه الحراك الشعبي العربي اليوم، هو ذلك النمط الفريد من الإنسان رفيع الثقافة والوعي الذي تتساقط مع عودته جميع الأقنعة الملفقة التي غطت وجوهنا طويلا في عهود الظلام. فهل تأخر الناس؟ ربما. أحد الرؤساء الأميركيين لم يطق صبرا ذات يوم، حين كرروا أمامه قصة المثل الشهير الذي يقول “العصفور المحظوظ هو الذي يستيقظ باكرا ويحظى بالدودة”. علق قائلا “ربما يكون ذلك العصفور محظوظا فعلا. لكن لم يفكر أحد بالدودة. ماذا عن حظّها السيء”.
فهل يحتاج الناس إلى كل هذا الوقت للاستيقاظ، حتى تنضج رؤاهم؟ يجيب ابن المقفع في رسالته الإصلاحية التي وجّهها إلى أبي جعفر المنصور قائلا “أما سؤالكم عن الزمان. فإن الزمان هو الناس”. وحين يستيقظ عصفور الوعي لدى الشعوب، فسيكون ذلك اليوم هو يوم الحظ الأسود للكثير من الديدان دون شك. وكل ذلك يجري فوق تراب كافور حيٍّ لا يموت.