عن الشعر في المربد الشعري

أن تكون مسؤولا في العالم العربي فأنت معذَّب وممزّق بين الوفاء لانحيازاتك الفكرية والجمالية الرفيعة، وإرضاء أناس لا يُجمعون إلا على التربص بالأنشطة الثقافية. ولا أحد يستطيع إرضاء الجميع، ولو كان نبيا رسولا. ولأنك لست نبيا، فلتكن جسورا وتعلن لائحة ملزمة لأي نشاط تتولى إدارته، وتحتمل نوبات التذمّر وموجات الغضب، ثم تقدم في الختام كشف حساب بالتفاصيل، ومدى الالتزام بالبرنامج المعلن، ورزقك على الله.
في زحام حضور مهرجان المربد الشعري الثالث والثلاثين، (دورة الشاعر حسين عبداللطيف 6ـ 9 مارس 2019)، لم يتسع الوقت لمناقشة هذا الأمر مع عضو الهيئة العليا للمهرجان الدكتور سلمان كاصد رئيس اتحاد أدباء البصرة، وهو ناقد مرموق لا يحتاج إلى هذا التذكير. ما تمنيته أن أشعر بأن العراق تغير بالفعل، ولا أقصد بالتغير انتقالا بالشعر من أقصى التطرف الاستبدادي «الوطني» إلى تطرف مضاد، يساويه في المقدار ويزيد، وليس أسوأ في العراق من ذكر «يزيد».
بعد 33 دورة للمهرجان، ليس كثيرا على بلد قدّم للعالم أول قانون، أن يرسي قانونا يؤكد أن الشعر ليس سيفا يستدعى لحرب جرت قبل 1400 عام، وانتهت بانتصار طرف فنيت ذريته، ولا جدوى من تكريس الوقت والجهد والشعر للنيل منه، ففي هذا إحياء لذكره.
ولكن العراق -الذي يعشق الشعر وتنبت في أرضه القصائد أكثر من النخيل- محيّر لا يتحصن بمقولة «إلا الشعر يا مولاي». وفي مهرجان المربد السادس عشر (15ـ 21 نوفمبر 2000)، كان كل شيء مجيّشا، بداية بدعوة تقول إن إدارة المهرجان «بسبب الحصار الظالم المفروض على العراق تتحمل نفقات النقل من عمان إلى بغداد»، ويتحمل الضيف نفقات السفر إلى عمان، وصولا إلى قصائد أشاد فيها شعراء عرب بالعراق المتجه إلى تحرير القدس، فألقى الفلسطيني محمد القيسي قصيدة «عند باب المعظم»، وقال الأردني إبراهيم الخطيب في قصيدته «درة في مهب الريح»: حينما ذهبت أسود الليالي/ مطفآت.. كان العراق بديل. ومن سوريا أنشد أبوفراس: هبّوا إلى المسجد الأقصى وموعدكم/ أم المعارك فيها الدرس والعبر.
تغير العراق ولم يتغير. التغيير العاصف جسدّه خطاب رئيس عراقي يحمل درجة الدكتوراه في الفسلفة، وهو فؤاد معصوم باستعراضه، في دورة عام 2017، أعلام البصرة: الفراهيدي والجاحظ وبشار والأصمعي والحسن البصري وسيبويه، والسياب «وشعراء الأجيال الأحدث، حيث كثير منهم بينكم الآن»، وذكر لفظ «الشعر» 22 مرة، في كلمة لا تزيد على 22 سطرا، أما الحرية فكررها مقترنة بالكرامة والإبداع، «ولا جوهر للإنسان إلا في حريته».
وناقض أغلب القصائد كلمة الرئيس، فشيّد الشعراء مسرحا للمعارك القديمة، «ونفخوا في الأبواق وصرخوا بصوت عظيم»، داعين لثأر تاريخي تواصل أيضا في المهرجان الثالث والثلاثين إلى درجة مثيرة للتأمل، بمزايدة بعض الضيوف على شعراء العراق، والاصطفاف مع العراق بقصائد لا أتخيل نشرها في ديوان، أو إلقاءها في بلد آخر.
والمفارقة هي تقدّم السياسي بخطوات، وكما كان الرئيس السابق فؤاد معصوم أكثر حماسة للحرية، فإن الرئيس برهم صالح قال في كلمته بحفل الافتتاح، الأربعاء 6 مارس 2019، إن «الشعر يزيد مساحة الجمال، ويوسع أفق الحرية»، وهذا لا يسرّ تيارا سلفيا يُعيد الشعر إلى طفولته، ويحمّله أعباء نفضها منذ زمن، ويدعو العرب وغيرهم من ضيوف المربد إلى اصطناع قصائد مقفاة تطرب جمهورا جاهزا للإعجاب بالنص الخطابي المنبري، ومن الطبيعي قول شاعرة تركية «قلوبنا تعتصر منذ أيام كربلاء»، في قصيدة عنوانها «مرثية إلى شهيد كربلاء» التي ينتهي أغلب سطورها بنداء: يا علي، يا حسين. فلم أملك إلا نداء: يا الله.