عن أبجديات الصراع العربي - الإسرائيلي ومآلاته

تديين الصراع يخدم عنصرية إسرائيل، ويسوّغ إصرارها على إقصاء غير اليهود من فلسطين المحتلة، ليكون الكيان يهوديا خالصا.
الجمعة 2021/05/21
في الحرب يترافق الحجر والصاروخ والرسم على الجدران والإدانة الأخلاقية

الأحداث الجارية في فلسطين المحتلة لن تنتهي بنصر قريب، ولكنها تركت آمالا ووعودا بنصر قادم، مؤجل إلى حين، ولعل الجيل الحالي يدرك حصاده. أهم ما أكده شهر مايو 2021 هو الوعي، الذي تم تزييفه منذ ما قبل النكبة، بوجود كيان عسكري عنصري يجسد ذروة التمثيلات الاستعمارية، ويعيد التذكير بماض كريه ظنّ أحرار العالم أنه صار تاريخا، فإذا بهم يرون عنوانه الأخير. وكان هذا الوعي الإنساني ينتظر حدثا عنصريا يستند إلى حكم محكمة بطرد أهالي حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة؛ لكي تتوارى الرواية الصهيونية، ويتبين للعالم ربما للمرة الأولى أن إسرائيل تسلك «إرهاب الدولة»، وأن في فلسطين شعبا لا يزال يقاوم.

الحالة الصهيونية لا تستهدف فلسطين وحدها. هي استعمار صريح يستهدف العالم العربي، وبوهم السلام نجح في تحييد مصر، فانفرط العقد. ومن الغفلة أن يعتمد الخطاب الإعلامي والسياسي مصطلح «الصراع الإسرائيلي الفلسطيني»، وهو مصطلح دقيق في ما يخص استفراد إسرائيل بالفلسطينيين الذين أدركوا أنهم وحدهم في المعركة، وأن «الأشقاء» لا يملكون إلا الدعم المادي وإعادة الإعمار، ولا يجرأون على تسمية الأشياء بأسمائها، ولو بخطاب مراوغ يجيده رجب طيب أردوغان، وتلهب به «حماس» الشارع العربي حتى الرافض للمشروع التركي. فمنذ عام 2002 يلحّون إلى حدّ التوسل على مصطلح «الأرض مقابل السلام»، وحلّ الدولتين. وأفاقتهم صفعة نتنياهو عام 2020 بأن «السلام مقابل السلام».

يجري حاليا وسم العدوان والصراع بطابع ديني. اُستدعي تجميع لمقاطع فيديو من تفسير محمد متولي الشعراوي لآيات قرآنية، تنعش وسائل التواصل الاجتماعي، وتثلج صدور المؤمنين بتديين الصراع العربي الإسرائيلي. يرهن الشعراوي «النصر على اليهود» بعودة المسلمين «عبادا لله»؛ فيهلل له جمهوره المستلب، فيستجيب للاستحسان الجماهيري قائلا «ادخلوا المسألة على أنها أمر ديني، وليست أمرا عربيا ولا سياسيا». والأخطر من ذلك قوله إن «بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما أُخبرنا بأن اليهود دخلوا بيت المقدس سجد لله»، لتحقُّق آية تجمّع اليهود في مكان واحد، فتسهل على المسلمين هزيمتهم. ولعله يشير إلى سجوده لله شكرا، حين بلغه خبر هزيمة 1967.

ففي مقابلة أذاعها التلفزيون المصري في نهاية الثمانينات، قال الشعراوي لطارق حبيب إنه علم بالهزيمة وهو في الجزائر؛ فسجد لله شكرا «فرحت أننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نُصرنا ونحن في أحضان الشيوعية، لأُصبنا بفتنة في ديننا، فربنا نزّهنا». وما يثير الأسى هو سحر عابر للأجيال تمارسه روح الشعراوي في مصالحة شيعته على سلوك استعماري، قائلا إن سياسات بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول «المعادية للإسلام»، منذ وعد بلفور، ما هي إلا «خدمة لقضية الإسلام». نظرة قاصرة عن إدراك أن اليهود في فلسطين المحتلة أقل من نصف يهود العالم، وأن أعدادهم في الولايات المتحدة تقترب من أعدادهم في فلسطين.

تديين الصراع يخدم عنصرية إسرائيل، ويسوّغ إصرارها على إقصاء غير اليهود من فلسطين المحتلة، ليكون الكيان يهوديا خالصا. والعودة إلى أصل الأشياء تضع العالم أمام ثنائية الاحتلال والمقاومة. ما حدث في فلسطين احتلال عسكري لم يهنأ فيه بالأمان جيش الاحتلال ولا المجتمع، إذا قلنا تجاوزا إن هناك مجتمعا يهوديا؛ فالكل مجند لخدمة جيش يخشى حجرا من شاب فلسطيني اغتصبت أرضه أو طرد من بيته. واعتبار الحرب دينية مقدسة يعمي العقول عن رؤية تباينات في نسيج يهودي يضم يهود فلسطين، وأصوليين توراتيين يرفضون فكرة «الدولة اليهودية»، وأطياف اليسار المتعاطف مع الحقوق الفلسطينية، ومجندين استيقظت ضمائرهم سواء بقوا في فلسطين أو غادروها.

هذه العودة إلى ثنائية الاحتلال والمقاومة ستضغط على ضمير العالم؛ فيوافق الفلسطيني على حقه في مقاومة احتلال يدّعي ممارسة «الدفاع عن النفس». هذه العودة تفيق الغافلين العرب الذين تدفعهم الهزيمة النفسية إلى القبول بأمر يرونه أبديا بسبب فقر الخيال، ويسمونه الواقعية، والأصح أنها وقائعية متغيرة، ويتساءلون بسذاجة: وماذا نفعل في الإسرائيليين بعد تحرير فلسطين؟ أمامهم تجربة جنوب أفريقيا في استيعاب السود والبيض. وفي دولة فلسطين الواحدة يتساوى الجميع بمن فيهم اليهود الأصليون، وغيرهم ممن يريدون البقاء في دولة علمانية لا يمتاز فيها مواطن عن آخر بسبب دينه، مع إتاحة حق العودة للفلسطينيين في الشتات. واحتراما للتاريخ وللذاكرة يكون اسمها «فلسطين».

لماذا فلسطين؟ لأن اليأس يشوّش، ويؤدي إلى القناعة بقليل يتاح، ويضلل فيتغّير الخطاب والعنوان والمفاهيم، ويصير الأمر كله «سَلَـطة». ففي الفيلم التسجيلي «سَلَـطة بلدي»، قالت راندا شعث إنه لا يهم أن تحمل الدولة المنشودة اسم «بطيخ». ولكننا لا نعرف لهذه «البلاد» اسما آخر غير فلسطين؛ فمن يرضى بالبطيخ سيرضى بإسرائيل المستحقة المقاومة وهي اسم للدولة، أو ككيان احتلالي تبيح القوانين الدولية مقاومته بكل السبل. لم تكن الجزائر لتتحرر إلا عبر جسر طوله مليون ونصف المليون شهيد، وما كان عربي واحد يلتمس العذر للجيش الفرنسي المحتل في «الدفاع عن النفس»، ولم يستنكر أحرار العالم استهداف المقاومة الجزائرية لأماكن تجمعات المستوطنين الفرنسيين.

Thumbnail

ترسيخ خطاب ثنائية الاحتلال والمقاومة في المحافل والمحاكم الدولية يسقط عن العدو راية «الدفاع عن النفس»، ويقدمه إلى العالم عاريا قاتلا يواجه ضحاياه بآلات عسكرية، ويكشف الغطاء الأخلاقي الزائف عن ممولي مرتزقة يمارسون «إرهاب الدولة»، متسترين بقناع ديني. لا دين للمرتزقة، إنهم آلات لتنفيذ مهام قذرة يتعفف القاتل الأنيق عن تلويث يديه بها. وبعد انتهاء الدور الوظيفي لإسرائيل تجاه منشئيها البريطانيين، تعهدتها الولايات المتحدة بالرعاية، ولو صعدت الصين غدا ستكون إسرائيل كيانا وظيفيا يحمي مصالحها. كان عدوان 1956 كاشفا للراعي البريطاني السابق وغريمه الفرنسي، وأما الراعي الحالي فلم يسمح للكيان الوظيفي، عام 1991، بالردّ على صواريخ صدام حسين، فأذعنت إسرائيل.

للصراع العربي الإسرائيلي أدوات ووسائل وساحات متعددة، المعنوي منها يسلب العدو ومموليه أسلحتهم. في كتابه «شوكولاتة» يسجل الكاتب النرويجي سيمن ساتره أن عمال مزارع الكاكاو ضحايا «تمييز عنصري»، فقد تمضي سنة لا يحصلون فيها على أجورهم، وإذا طالبوا بها تعرضوا للعقاب، ومنهم أطفال فقدوا حرية مغادرة أماكن العمل، ولم يذهب 88 في المئة منهم إلى المدارس. وظل المنتجون ينكرون أن منتجاتهم اللذيذة «ليست خالية من الرق». وساعدت جهود صحافيين ومحامين ومنظمات دولية على اتخاذ تدابير لحماية العمال، وحاول السناتور توم هاركين والسناتور إليوت إنجل إرساء نظام يسمح بوضع علامة تحمل عبارة «شوكولاتة خالية من الرقّ». ورأى المنتجون تبرئة أنفسهم أمام المستهلكين.

لا تعوزنا الأدلة على عنصرية العدو، وما كان خافيا في أزمنة الضعف ومراحل التأسيس فضحه استعراض القوة. تورد الباحثة المصرية صفا عبدالعال في كتابها «تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية» نماذج من 16 كتابا في مناهج الدراسات الاجتماعية (التاريخ والجغرافيا) المقررة على تلاميذ إسرائيل من الصف الثالث إلى السادس الابتدائي. في هذه المناهج لا وجود لحدود الوطن، والعرب هم «قطاع الطرق، البدو المتخلفون، عابرو السبيل، الأفاعي، اللصوص السفاحون المتآمرون، الخونة والمختلسون، الإرهابيون الطامحون للأخذ بالثأر، الزائرون، الكلاب، المتوحشون، الأنذال، المتعطشون للدماء اليهودية». ولا تقتصر «الخارطة الطبيعية لإسرائيل المنشودة» على فلسطين التاريخية، وإنما تمتد إلى الأردن ولبنان وسوريا، فهي «أرض الآباء والأجداد».

في الحرب يترافق الحجر والصاروخ والرسم على الجدران والإدانة الأخلاقية. لا تُزعج إسرائيلَ عنصريتُها، بل إدانتها بهذه العنصرية. في عام 1975 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3379، ويقول «الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري». تزامن القرار مع توجّه مصر نحو المدار الأميركي الإسرائيلي، ويتلقى الطرفان المصري والإسرائيلي معونة أميركية، وضمنت إسرائيل حياد مصر كلما اعتدت على الفلسطينيين، أو قررت شنّ هجمات على لبنان وسوريا والعراق والسودان. في غيبوبة مصر، تسلل العدو إلى دول أفريقية كانت ظهيرا للقاهرة. وأثمر «السلام» نجاح الراعي الأميركي، عام 1991، في إلغاء قرار اعتبار الصهيونية حركة عنصرية. حي الشيخ جراح أفاق العالم.

7